الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فسورة الجمعة احتوت على معانٍ لطيفة وفريدة، وبان في طياتها رفعة مقام النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فسورة الجمعة احتوت على معانٍ لطيفة وفريدة، وبان في طياتها رفعة مقام النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه جل جلاله، ووجهت الأمة لإقامة هذه الصلاة الفريدة؛ وهي صلاة الجمعة، سميت السورة باسمها، ولأهمية هذه السورة ومناسبتها للجمعة كان رسول الله يقرأ بها في كل صلاة جمعة؛ فعن ابن عباس، "...وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة، والمنافقين"[1]، وفي هذه الصفحات سننهل من عبيرها الفواح بصيغة السؤال والجواب مع مقدمات لا غنى لنا عنها، ونسأله تعالى أن يفتح علينا من خزائن علمه.
مقدمات مهمة:
1- وجه الترابط بين ختام سورة الحشر وبداية سورة الجمعة:
قال الله تعالى في ختام سورة الحشر: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الحشر: 23، 24].
ومعاني صفات الله تعالى المذكورة هنا تقدمت في خواتم سورة الحشر...ومناسبة الجمع بين هذه الصفات هنا أن العظيم لا ينصرف عن مجلس من كان عنده إلا عند انفضاض مجلسه أو إيذانه بانصرافهم.
والقدوس: المنزه عن النقص وهو يرغب في حضرته.
والعزيز: يعتز الملتفون حوله، فمفارقتهم حضرته تفريط في العزة. وكذلك الحكيم إذا فارق أحد حضرته فاته في كل آن شيء من الحكمة كما فات الذين انفضوا إلى العير ما خطب به النبي صلى الله عليه وسلم إذ تركوه قائمًا في الخطبة [2].
2- يوم الجمعة وفضله:
والجمعة: بضم الجيم وضم الميم في لغة جمهور العرب وهي لغة أهل الحجاز. وبنو عقيل بسكون الميم...والتعريف في الصلاة تعريف العهد، وهي الصلاة المعروفة الخاصة بيوم الجمعة؛ وقد ثبتت شرعًا بالتواتر، ثم تقررت بهذه الآية، فصار دليل وجوبها في الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة... وجعل الله يوم الجمعة للمسلمين عيد الأسبوع، فشرع لهم اجتماع أهل البلد في المسجد، وسماع الخطبة؛ ليعلموا ما يهمهم في إقامة شؤون دينهم وإصلاحهم.
قال القفَّال: لما جعل الله الناس أشرف العالم السفلي لم يخف عظم المنة وجلالة قدر موهبته لهم، فأمرهم بالشكر على هذه الكرامة في يوم من الأيام السبعة ليكون في اجتماعهم في ذلك اليوم تنبيه على عظم ما أنعم الله به عليهم.
وصلاة الجمعة هي صلاة ظهر يوم الجمعة، وليست صلاةً زائدةً على الصلوات الخمس فأُسقِط من صلاة الظهر ركعتان لأجل الخطبتين، روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: وإنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة [3].
3- لماذا ابتدأت هذه السورة بالتسبيح وبصيغة المضارع دون الماضي؟
قال ابن عاشور: افتتاح السورة بالإخبار عن تسبيح أهل السماوات والأرض لله تعالى براعة استهلال؛ لأن الغرض الأول من السورة التحريض على شهود الجمعة، والنهي عن الأشغال التي تشغل عن شهودها، وزجر فريق من المسلمين انصرفوا عن صلاة الجمعة حرصًا على الابتياع من عير وردت المدينة في وقت حضورهم لصلاة الجمعة...وللتنبيه على أن أهل السماوات والأرض يجددون تسبيح الله ولا يفترون عنه.
أوثر المضارع في قوله: ﴿يُسَبِّحُ﴾... وجاء فيها فعل التسبيح مضارعًا، وجيء به في سواها ماضيًا؛ لمناسبة فيها، وهي: أن الغرض منها التنويه بصلاة الجمعة، والتنديد على نفر قطعوا عن صلاتهم، وخرجوا لتجارةٍ أو لَهْوٍ، فمناسب أن يحكى تسبيح أهل السماوات والأرض بما فيه دلالة على استمرار تسبيحهم وتجدده تعريضًا بالذين لم يتمُّوا صلاة الجمعة [4].
4- بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنة الله علينا بمبعثه، والاستجابة لدعاء سيدنا إبراهيم بغير ترتيب الدعاء الذي دعا به، فكانت التزكية مقدمة على العلم في الإجابة.
المُتَتَبِّع للآيات الكريمات يقف عند دعاء سيدنا إبراهيم وهو يدعو للأمة أن يبعث فيهم رجلًا مهمته تلاوة آيات الله على عبادة ويعلمهم إياها؛ ومن ثم يزكيهم، قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 129].
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله استجاب لهذه الدعوة؛ فعن عرباض بن سارية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني عبد الله لخاتم النبيين، وإن آدم عليه السلام لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ تَرَيْنَ"([5]).
واستجاب الله لدعوة سيدنا إبراهيم التي دعاها ولكن الترتيب على غير الدعوة في ثلاث آيات من كتاب الله:
الأولى: في سورة البقرة قال تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 151].
والثانية: في سورة آل عمران وجاءت في سياق تذكير الله المؤمنين بالمنة الإلهية عليهم بمبعث رسول الله فيهم، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164].
والثالثة: في سورة الجمعة، فقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2].
فتفضل الله على المؤمنين؛ إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم نبيًّا من أهل لسانهم، ولم يجعله من غير أهل لسانهم فلا يفقهوا عنه ما يقول [6]، وقيل: معناه: واحد منهم وبشر مثلهم، وإنما امتاز عنهم بالوحي [7].
فوجه المنة على الأول: أنهم يفقهون عنه، ويفهمون كلامه، ولا يحتاجونإلى ترجمان.
ومعناها على الثاني: أنهم يأنسون به بجامـع البشرية، فلو كان ملكًا لم يحصل كمال الأنس به لاختلاف الجنسية.
وهذا القدر مما ذكرته سالفًا لا يخفى على القارئين لكتاب الله تعالى زيادة على المتفكِّرين فيه.
ومما وفقني الله فيه أن منَّ عليَّ أن أضيف ملحظًا آخر في التزكية، وهو أن الله تبارك وتعالى أخبرنا أنه لولا فضله، وفضل بركة نبيه ما زكى من المؤمنين أحد البتة، ولعل القارئ الكريم يستغرب مما يقرأ!
والرحمة هنا هي ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأستدل على ما أقول بقوله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ [يونس: 58، 59].
قال ابـن عباس وهو يفـسر هـذه الآية: قال ابن عباس فيما روى الضحاك عنه: الفضل: العلم، والرحمة: محمد صلى الله عليه وسلم[8].
والقرآن يفسر بعضُه بعضًا كما هو معلوم، وهو أقوى أنواع التفسير، والسنة مفسرة للقرآن فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مهداة"[9]، والعارف باللغة يعلم أن (إنما) أداة حصر تفيد إثبات الحكم للمذكور، فتجسدت به الرحمة صلى الله عليه وسلم.
وإذا أردت أن تزداد يقينًا مما قلت فما ذكر فضل الله في القرآن على أمة النبي صلى الله عليه وسلم مقرونًا برحمته إلا وجاز لنا أن نفسر الرحمة في هذا الموضع به صلوات ربي وسلامه عليه.
فلو فسرت الرحمة في الآيات السابقة بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لاستقام المعنى، والله أعلم بالصواب.
لا يتبادر إلى ذهن القارئ أن هذا الاستقراء في القرآن ينقض بقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113].
فأقول: في هذا الموضع من كتاب الله تعالى قيد بلفظ: (عليك)، وليس (عليكم)، فخص رسول الله بالفضل والرحمة دون غيره بخلاف باقي المواضع، فالمخاطب به الأمة فيستقيم ما قلنا، والله أعلم بالصواب.
قال ابن عاشور: هذه الآيات هي المقصود من السورة، وما قبلها مقدمات وتوطئات لها كما ذكرناه آنفًا.... فهذا وجه اتصال هذه الآية بالآيات الأربع التي قبلها فكن لهذه الآية تمهيدًا وتوطئةً. اللام في قوله: ﴿لِلصَّلَاةِ﴾ لام التعليل؛ أي: نادى منادٍ لأجل الصلاة من يوم الجمعة، فعلم أن النداء هنا هو أذان الصلاة ([10]).
5- لماذا كان النداء "يا أيها الذين آمنوا" دون الناس؟ ولماذا خصت صلاة الجمعة بالنداء لها دون غيرها من الصلوات؟
الجواب: لأن المؤهلين لخطاب الجمعة هم الصفوة، وهم المؤمنون وليس الناس، وإن الجمعة شرف يناله المؤمنون وهو يستحق ذلك.
ونودي وهو: مشتق من الندى-بفتح النون وبالقصر-وهو بعد الصوت، ولم يسمع فعله إلا بصيغة المفاعلة، وليست بحصول فعل من جانبين؛ بل المفاعلة للمبالغة...وهذا النداء هو الكلام الموجه إليه من جانب الله تعالى [11].
ويعلم أن النداء الذي نيط به الأمر بالسعي في هذه الآية هو النداء الأول، وما كان النداء الثاني إلا تبليغًا للأذان لمن كان بعيدًا، فيجب على من سمعه السعي إلى الجمعة للعلم بأنه قد نودي للجمعة [12].
6- السعي ومعناه، وكيف نجمع بينه وبين النهي عن إتيان الصلاة بهذه الشاكلة؟
من المعلوم بداهة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى من إتيان الصلاة بالسرعة؛ وإنما حث على إتيانها بالسكينة والوقار؛ فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصلاة، وعليكم بالسكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» [13].
فالسعي المقصود هنا هو مجاز لا حقيقة، وهذا هو سعي القلوب بالتوجه للصلاة لا بالمشي؛ قال ابن عاشور: والسعي: أصله الاشتداد في المشي، وأطلق هنا على المشي بحرص وتوقي التأخر مجازًا ([14]). وبذلك يزول الإشكال، والله أعلم بالصواب.
7- ما هو المقصود بالذكر في هذا المقام؟
والجواب: أن المقصود بذكر الله هو: الصلاة، وفسَّره آخرون بالخطبة، وهو ما ذهب إليه سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير. قال أبو بكر بن العربي: "والصحيح أنه الجميع أوله الخطبة".
قال ابن عاشور: وإيثار ذكر الله هنا دون أن يقول: إلى الصلاة، كما قال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ﴾ [الجمعة: 10]، ولا شك أن الإمام إذا خرج ابتدأ بالخطبة، فكانت الخطبة من الذكر، وفي ذلك تفسير للفظ "الذكر" في هذه الآية ([15]).
قلت: ولعله عام أريد به خاص في زمنه صلى الله عليه وسلم فالنبي صلى الله عليه وسلم هو: الذكر في هذه الآية والسعي له، وهو ما سنتعرف عليه إن شاء الله، فإن الله لامهم لترك مقامه لا الخطبة ولا غيرها وهو من مكانته عند ربه جل جلاله، والله أعلم بالصواب؛ قال الله تعالى:﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا﴾ [الطلاق: 8، 9].
(رسولًا) بدل من (ذكرًا) بدل اشتمال؛ لأن بين القرآن والرسول محمد صلى الله عليه وسلم ملازمةً وملابسةً، فإن الرسالة تحققت له عند نزول القرآن عليه، فقد أعمل فعل أنزل في (رسولًا) تبعًا لإعماله في المبدل منه، باعتبار هذه المقارنة واشتمال مفهوم أحد الاسمين على مفهوم الآخر. وهذا كما أبدل "رسول من الله" من قوله: ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ﴾ [البينة: 1، 2] في سورة البينة) [16].
قال البغوي: والرسول: هو محمد صلى الله عليه وسلم...وسماه الله ذكرًا؛ لأن تردد اسم النبي صلى الله عليه وسلم على الألسنة داخل في عبادة الذكر التي هي من أجل العبادات [17].
قلت: ويعكر صفو هذا التفسير أن الذكر قرن هنا بلفظ الجلالة (الله)، وعليه يراد به ذكر الله العام المتبادر للذهن، والله أعلم بالصواب.
8- لماذا جاء النهي عن البيع وخص بذلك دون غيره؟
والجواب: وإنما نهوا عن البيع؛ لأنه الذي يشغلهم، ولأن سبب نزول الآية كان لترك فريق منهم الجمعة إقبالًا على عير تجارة وردت...ومثل البيع كل ما يشغل عن السعي إلى الجمعة...ولأن البيع فيه منفعة ظاهرة بخلاف الشراء ففيه النفقة، وهو أشد على النفس، والله أعلم بالصواب.
والبيع قد يراد به البيع أو الشراء معًا؛ لأنه ورد بمعنى الشراء؛ لقوله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ [يوسف: 20]، وهذا نوع من الإعجاز؛ أي: اتركوا البيع والشراء معًا، والله أعلم بالصواب.
والملاحظ أن الأمر جاء بصيغة: (ذروا) وهو مأخوذ من ذرت الريح الشيء تذروه ذروًا: نسفته وفرَّقته [18]، وعليه يدل على شدة الترك لامتثال الأمر، والله أعلم بالصواب.
9- الانتشار وحكمته، ولماذا جاء بصيغة الأمر وما يؤخذ منه؟
والانتشار: الظهور على الأرض، والتباعد بين الناس في الأعمال [19]، والأمر هنا للندب كما هو معلوم، وفيه دليل على طلب الرزق بعد أداء الطاعة؛ وهي صلاة الجمعة، وفيه رد على من زعم أن الجمعة هي عيد للمسلمين، فلا ينبغي العمل في هذا اليوم، وهو مخالف لظاهر النص، والله أعلم بالصواب.
10- الذكر الكثير وحكمته؟
وقوله: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ هو احتراس من الانصباب في أشغال الدنيا انصبابًا ينسي ذكر الله، أو يشغل عن الصلوات، فإن الفلاح في الإقبال على مرضاة الله تعالى [20].
قلت: عبادة وحيدة لم تتقيَّد بزمان ولا مكان ولا صفة ولا عدد، وهي عبادة الذكر، فقال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [21].
11- لماذا قال: ﴿إِلَيْهَا﴾ عند قوله: ﴿انْفَضُّوا﴾، ولم يقل: (إليهما)، ومعلوم أنهما اثنان: اللهو، والتجارة؟
12- وضمير (إليها): عائد إلى التجارة؛ لأنها أهم عندهم من اللهو؛ ولأن الحدث الذي نزلت الآية عنده هو مجيء عِير دحية من الشام. واكتفى به عن ضمير اللهو [22].
قلت: لأن اللهو تابع لقافلة التجارة وليس أصلًا بحد ذاته، فلا وجود للهو المصاحب للقافلة إلا بوجودها، والله أعلم بالصواب.
13- الانفضاض ومعانيه، وما الذي أفاده في هذا الموضع؟
قال ابن فارس: (فض) الفاء والضاد أصل صحيح يدل على تفريق وتجزئة. من ذلك: فضضت الشيء، إذا فرقته، وانفض هو. وانفض القوم: تفرقوا. قال الله سبحانه: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159] [23].
قال ابن عاشور: والانفضاض: مطاوع فضَّه إذا فرَّقه، وغلب إطلاقه على غير معنى المطاوعة؛ أي بمعنًى مطلق كما تفرق، قال تعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾ [المنافقون: 7] [24].
والذي أفاده في هذا الموضع هو شدة الترك، وهو محل العتب واللوم كما سيأتي، والله أعلم بالصواب.
14- لماذا قال في الموضع الأول: (لهوًا أو تجارة)، وقال في الموضع الثاني: ﴿تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا﴾ [الجمعة: 11]، فما فائدة التقسيم بقوله: (أو)؟ ولماذا التقديم والتأخير؟
15- الجواب: لعل التقسيم الذي أفادته (أو) في قوله: ﴿أَوْ لَهْوًا﴾ تقسيم لأحوال المنفضِّين؛ إذ يكون بعضهم من ذوي العائلات خرجوا ليمتاروا لأهلهم، وبعضهم من الشباب لا همة لهم في الميرة؛ ولكن أحبوا حضور اللهو. وإذا ظرف للزمان الماضي مجرد عن معنى الشرط؛ لأن هذا الانفضاض مضى، وليس المراد أنهم سيعودون إليه بعد ما نزل هذا التوبيخ وما قبله من الأمر والتحريض [25].
﴿أَوْ لَهْوًا﴾ فيه للتقسيم؛ أي: منهم من انفضَّ لأجل التجارة، ومنهم من انفضَّ لأجل اللهو، وتأنيث الضمير في قوله: ﴿إِلَيْهَا﴾ تغليب للفظ (تجارة)؛ لأن التجارة كانت الداعي الأقوى لانفضاضهم [26].
قلت: الموضع الأول للتقسيم؛ أي: إنه إذا رأوا الأمر المهم وهو التجارة، أو التافه وهو اللهو، تركوك قائمًا، ومقامك خير من الأمر التافه والمهم، فالأول للتقسيم، والثاني التدرج من الأدنى إلى الأعلى، والله أعلم بالصواب.
16- لماذا عاب الله عليهم ترك النبي صلى الله عليه وسلم دون ترك الخطبة؟
وجملة: ﴿وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾ [الجمعة: 11]: تفظيع لفعلهم؛ إذ فرطوا في سماع وعظ النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: تركوك قائمًا على المنبر، وذلك في خطبة الجمعة، والظاهر أنها جملة حالية؛ أي: تركوك في حال الموعظة والإرشاد، فأضاعوا علمًا عظيمًا بانفضاضهم إلى التجارة واللهو، وهذه الآية تدل على وجوب حضور الخطبة في صلاة الجمعة؛ إذ لم يقل: وتركوا الصلاة.
قلت: والذي يقرأ هذا الموضع من سورة الجمعة، وينهل من معانيه وأنواره، يجد أن الله تبارك وتعالى ما عاب على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تركَهم لصلاة الجمعة وخطبتها [27] عند قدوم قافلة التجارة ولهوها؛ وإنما عاب عليهم تركَهم النبي صلى الله عليه وسلم قائمًا، وفي ذلك من التنبه لهذا المقام الشريف عند ربه، قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾ [الجمعة: 11]، وأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى، وأنهم لو تركوه كلهم وهو قائم لسال بهم الوادي نارًا؛ فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وقدمت عير إلى المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي النار، فنزلت هذه الآية: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾) [28].
من أجل هذا المعنى وتأكيده في نفوس الأمة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة الجمعة؛ فعن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر، يوم الجمعة: ﴿الم * تَنْزِيلُ﴾ [السجدة: 1، 2] السجدة، و﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ [الإنسان: 1]، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة، والمنافقين"[29].
وفي النص أعلاه إشارة إلى أنه من ترك الجمعة من غير عذر كان من المنافقين؛ فلذلك كان يقرأ بسورة المنافقين في الركعة الثانية وهو ما يوافق قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "من ترك الجمعة ثلاثًا من غير عذر فهو منافق"[30].
والملفت للنظر أن الله تبارك وتعالى عندما عاتبهم رضي الله عنهم على تركه صلى الله عليه وسلم وهو يخطب عقب عليها بقوله: ﴿قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [الجمعة: 11]، فلم يقل: قل بقاؤكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستماع له خير من اللهو ومن التجارة؛ وإنما قال: ﴿قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ فأقام نفسه بدلًا عنه [31] وفي هذا رفعة له صلى الله عليه وسلم ما بعدها رفعة، والله أعلم بالصواب.
قال ابن عاشور: (عطف التوبيخ على ترك المأمور به بعد ذكر الأمر وسلكت في المعطوفة طريقة الالتفات لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم إيذانًا بأنهم أحرياء أن يصرف للخطاب عنهم، فحرموا من عز الحضور، وأخبر عنهم بحال الغائبين، وفيه تعريض بالتوبيخ.
ومقتضى الظاهر أن يقال: وإذا رأيتم تجارة أو لهوًا فلا تنفضُّوا إليها. ومن مقتضيات تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر هنا أن يكون هذا التوبيخ غير شامل لجميع المؤمنين، فإن نفرًا منهم بقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين خطبته ولم يخرجوا للتجارة ولا للهو...وجملة: ﴿وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾ تفظيع لفعلهم؛ إذ فرطوا في سماع وعظ النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: تركوك قائمًا على المنبر، وذلك في خطبة الجمعة، والظاهر أنها جملة حالية؛ أي: تركوك في حال الموعظة والإرشاد، فأضاعوا علمًا عظيمًا بانفضاضهم إلى التجارة واللهو [32].
17- لماذا ذيَّل الآيات بقوله: ﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ دون باقي الصفات؟
وذيَّل الكلام بقوله: ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾؛ لأن الله يرزق الرزق لمن يرضى عنه سليمًا من الأكدار والآثام، ولأنه يرزق خير الدنيا وخير الآخرة، وليس غير الله قادرًا على ذلك، والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله وهو العالم بالسرائر [33].
قال ابن فارس: (فضل): الفاء والضاد واللام أصلٌ صحيحٌ يدل على زيادة في شيء [34].
وقال: (خير) الخاء والياء والراء، أصله العطف والميل، ثم يحمل عليه، فالخير: خلاف الشر؛ لأن كل أحد يميل إليه ويعطف على صاحبه...ثم يصرف الكلام فيقال: رجل خير وامرأة خيرة: فاضلة. وقوم خيار وأخيار... في صلاحها، وامرأة خيرة في جمالها وميسمها [35].
قال ابن رجب: والذي ظهر لي في الفرق بين "خير" أن لفظة "أفضل" إنما تستعمل في شيئين اشتركا في غير فضل، وامتاز أحدهما عن الآخر بفضل اختص به، فهذا الممتاز قد شارك ذاك في الفضل، واختص عنه بفضل زائد، فهو ذاك.
وأما لفظة "خير" فتستعمل في شيئين: في كل منهما نوع من الخير أرجح مما في الآخر، سواء كان لزيادة عليه في ذاته، أو في نفعه، أو غير ذلك، وإن اختلف جنساهما، فترجيح أحدهما على الآخر يكون بلفظة خير، فيقال مثلًا: النفع المتعدي خيرٌ من النفع القاصر، وإن كان جنسهما مختلفًا، ويقال: زيد أفضل من عمرو، إذا اشتركا في علم أو دين ونحو ذلك، وامتاز أحدهما على الآخر بزيادة.
وإن استعمل في النوع الأول لفظة "أفضل" مع اختلاف الجنسين، فقد يكون المراد: أن ثواب أحدهما أفضل من ثواب الآخر وأزيد منه، فقد وقع الاشتراك في الثواب، وامتاز أحدهما بزيادة منه [36].
وعليه: فأفضل يدل على الاشتراك بالأصل، وفيه زيادة على الآخر، وأما الخيرية فهي تعني أكثر من الزيادة تقول: فلان خير من فلان، وفلان أفضل من فلان.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.