إنَّ الحجَّ رحلةٌ مباركةٌ وسفرٌ عظيمٌ إلى خير الأراضي وأشرف البقاع استجابةً لله ورغبة في ثوابه وأملاً في نيل عظيم موعوده وجزيل نواله ووافر أجره، وهو باب رَحْبٌ لحطِّ الأوزار، وتكفير السيِّئات وزيادة الحسنات، وإقالة العثرات، والعتق من النار.
ومَن يخرج من بيته إلى الحجِّ يخرج معتمداً على ربِّه متوكِّلاً عليه مفوِّضاً أمره إليه، طالباً منه وحده العون والتوفيق والهداية؛ لعلمه بأنَّ الأمورَ كلَّها بقضائه وقدَره، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم، وهو مع هذا يحملُ زادَه معه، ويبذل السبب في نيل رحمة الله وثوابه.
وتأمَّل قول الله عزَّ وجلَّ في سياق آيات الحجِّ {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}(1)، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية أنَّ ناساً كانوا يخرجون إلى الحجِّ بغير زاد، ويَظنُّون أنَّ هذا حقيقة التوكُّل، ثم يضطرُّون إلى الناس ويحتاجون إلى سؤالهم.
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (( كان أهلُ اليمن يَحجُّون ولا يتزوَّدون، ويقولون: نحن المتوكِّلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناسَ، فأنزل الله تعالى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} )) (2).
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب التوكل عن معاوية ابن قرَّة قال: (( لقي عمر بن الخطاب ناساً من أهل اليمن فقال: مَن أنتم؟ قالوا: نحن المتوكِّلون، قال: بل أنتم المتَّكلون، إنَّ المتوكِّل الذي يلقي حبَّة في الأرض ويتوكَّل على الله عزَّ وجلَّ )) (3).
إنَّ حقيقةَ التوكُّلَ هو عمل القلب وعبوديته لله اعتماداً عليه وثقة به والتجاءً إليه وتفويضاً ورضاً بما يقضيه له لعلمه بكفايته سبحانه وحسن اختياره لعبده إذا فوَّض أموره إليه، مع القيام بالأسباب المأمور بها والاجتهاد في نيلها وتحصيلها، هذه حقيقة التوكُّل: اعتماد على الله وحده لا شريك له مع فعل الأسباب المأمور بها.
والناسُ في هذا المقام الجليل منقسمون إلى ثلاثة أقسام: طرفين ووسط؛ فأحد الطرفين: عطَّل السبب محافظة على التوكُّل، والطرف الثاني: عطَّل التوكُّل محافظة على السبب، والوسط: علم أنَّ حقيقةَ التوكُّلَ لا تتمُّ إلاَّ بالقيام بالسبب، فتوكَّل على الله في نفس السبب، وهما أصلان لا بدَّ منهما لتحقيق التوكُّل.
وقد جُمع بين هذين الأصلين العظيمين في نصوص كثيرة كقوله تعالى: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}(4)، وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، ونحوهما من الآيات.
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعُك واستعن بالله ولا تعجز )) (5).
فقوله: (( احرص على ما ينفعُك )) فيه الأمرُ بكلِّ سبب دينيٍّ ودنيويٍّ، بل فيه الأمر بالجدِّ والاجتهاد في ذلك والحرص عليه نيةً وهمَّةً وفعلاً، وقوله (( واستعن بالله )) فيه الإيمان بقضاء الله وقدره والأمر بالتوكُّل عليه والاعتماد عليه والثقة به سبحانه.
وروى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (( قال رجل يا رسول الله أعقلُها وأتوكَّل أو أُطلقها وأتوكَّل، فقال له: اعقلها وتوكَّل )) (6)، فأرشده صلى الله عليه وسلم إلى الجمع بين الأمرين فعل السبب والاعتماد على الله عزَّ وجلَّ.
وروى الترمذي أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (( لو أنَّكم توكَّلون على الله حقَّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطيرَ تغدو خماصاً وتروح بطاناً )) (7)، فذكر الأمرين معاً، فإن غُدُّوَ الطير وهو ذهابُها في الصباح الباكر هو سعيٌ في طلب الرِّزق وجِدٌّ واجتهادٌ في تحصيله.
قيل للإمام أحمد رحمه الله: ما تقول في رجل جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي؟ فقال أحمد: هذا رجلٌ جهِلَ العلمَ، أما سمع قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: (( إنَّ الله جعل رزقي تحت ظلِّ رُمحي ))، وقال حين ذكر الطيرَ: (( تغدو خماصاً وتروح بطاناً )) (8).
وبهذا يُعلمُ أنَّ التوكُّلَ لا بدَّ فيه من الجمع بين الأمرين فعل السبب والاعتماد على الله عزَّ وجلَّ، أمَّا من عطَّل السببَ وزعم أنَّه متوكِّلٌ فهو في الحقيقة متواكلٌ مغرور، وفعله هذا ما هو إلاَّ عجزٌ وتفريطٌ وتضييع، فلو قال قائل مثلاً: إن قدر لي أدركت العلم اجتهدتُ أو لم أجتهد، أو قال إن قدر لي أولاد حصلوا تزوَّجتُ أو لم أتزوَّج، وهكذا من رجا حصول ثمر أو زرع بغير حرث ولا بذر ولا سقي، وهكذا مَن يترك أهلَه وولدَه بلا نفقة ولا غذاء ولا يسعى في ذلك متَّكلاً على القدر، فكلُّ ذلك تضييعٌ وتفريطٌ وإهمالٌ وتواكلٌ.
قال ابن قدامة رحمه الله: (( قد يظنُّ بعضُ الناس أنَّ معنى التوكُّل تركُ الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة وكلحم على وضم، وهذا ظنُّ الجُّهَّال، فإنَّ ذلك حرامٌ في الشرع )) (9). اهـ.
أمَّا مَن يقوم بالسبب ناظراً إليه معتمداً عليه غافلاً عن المسَبِّب معرضاً عنه فهذا توكُّلُه عجزٌ وخذلانٌ ونهايتُه ضياع وحرمان، ولذا قال بعض العلماء: (( الالتفاتُ إلى الأسباب شركٌ في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقصٌ في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكليَّة قدحٌ في الشرع، وإنَّما التوكُّل والرَّجاء معنى يأتلف من مُوجب التوحيد والعقل والشرع )).
إنَّ التوكُّلَ على الله مصاحبٌ للمؤمن الصادق في أموره كلِّها الدينية والدنيوية، فهو مُصاحبٌ له في صلاته وصيامه وحجِّه وبرِّه وغيرِ ذلك من أمور دينه، ومُصاحبٌ له في جلبه للرِّزق وطلبه للمباح وغير ذلك من أمور دنياه.
والتوكُّل أصل لجميع مقامات الدِّين ومنزلته منها كمنزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلاَّ على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلاَّ على ساق التوكُّل.
جعلنا الله من المتوكِّلين عليه حقًّا، ومن المعتمدين عليه يقيناً وصدقاً، وهو حسبنا ونعم الوكيل.