الإيثارُ: أن يعطيَ الإنسانُ الشيءَ وهو محتاجٌ إليه.
أخرج البخاري عن سهل رضي الله عنه: "أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم ببردةٍ منسوجة فيها حاشيتها، فقالت: نسجتها بيدي فجئت لأكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فحسَّنها فلان فقال: اكسنيها، ما أحسنها. قال القوم: ما أحسنت، لبسها النبي محتاجًا إليها، ثم سألته وعلمتَ أنه لا يردُّ. قال: إني والله. ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه"[1].
وقد عرف الصحابة رضي الله عنهم، هذا الخلق منه صلى الله عليه وسلم إذ كان لا يرد سائلًا. ولذلك كان لومهم لذلك الصحابي الذي استحسن تلك البردة.
قال جابر بن عبدالله رضي الله عنه: "ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال: لا"[2].
ما فوق الإيثار:
إذا كان الإيثار أن يعطي الإنسان الشيء - وهو عنده - إلى غيره، على الرغم من حاجته إليه، فهناك ما هو فوق الإيثار: وهو أن يعطي وليس عنده شيء، فيستدين من أجل العطاء.
وقد كان هذا مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونحن نسوق حديث بلال رضي الله عنه - على طوله - لما فيه من بيان لهذا المعنى.
عن عبدالله الهوزني قال: "لقيت بلالًا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب، فقلت: يا بلال، حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: ما كان له شيء، كنت أنا الذي ألي ذلك منه، منذ بعثه الله إلى أن توفي وكان إذا أتاه الإنسان مسلمًا، فرآه عاريًا، يأمرني فأنطلق فأستقرض، فأشتري له البردة، فأكسوه وأطعمه.
حتى اعترضني رجل من المشركين، فقال: يا بلال، إن عندي سعة، فلا تستقرض من أحد إلا مني، ففعلت، فلما أن كان ذات يوم، توضأت ثم قمت لأؤذن بالصلاة، فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التجار، فلما رآني، قال: يا حبشي، قلت يالبَّاه، فتجهمني وقال لي قولًا غليظًا، وقال لي: أتدري كم بينك وبين الشهر؟ قال: قلت: قريب، قال: إنما بينك وبينه أربع، فآخذك بالذي عليك، فأردَّك ترعى الغنم، كما كنت قبل ذلك.
فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس، حتى إذا صليت العتمة، رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إن المشرك الذي كنت أتديَّن منه قال لي كذا وكذا، وليس عندك ما يقضي عني، ولا عندي، وهو فاضحي، فائذن لي أن آبق إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا، حتى يرزق الله رسوله صلى الله عليه وسلم ما يقضي عني.
فخرجت، حتى إذا أتيت منزلي، فجعلت سيفي وجرابي ونعلي ومجني عند رأسي، حتى إذا انشق عمود الصبح الأول، أردت أن أنطلق، فإذا إنسان يسعى، يدعو: يا بلال، أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فانطلقت حتى أتيته، فإذا أربع ركائب مناخات عليهن أحمالهن، فاستأذنت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبشر، فقد جاء الله بقضائك" ثم قال: "ألم تر الركائب المناخات الأربع؟" فقلت: بلى، فقال: "إن لك رقابهن وما عليهن، فإن عليهن كسوة وطعامًا، أهداهن إلي عظيم فدك، فاقبضهن واقض دينك" ففعلت..
ثم انطلقت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد، فسلمت عليه، فقال: "ما فعل ما قبلك؟" قلت: قد قضى الله كل شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق شيء، قال: "أفضل شيء؟" قلت: نعم، قال: "انظر أن تريحني منه، فإني لست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منه".
فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العتمة دعاني فقال: "ما فعل الذي قبلك؟" قال: قلت: هو معي، لم يأتنا أحد، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد..
حتى إذا صلى العتمة - يعني من الغد - دعاني فقال: "ما فعل الذي قبلك؟" قال: قلت: قد أراحك الله منه، يا رسول الله، فكبر وحمد الله شفقًا أن يدركه الموت وعنده ذلك.."[3].
وهكذا - وكما هو واضح من بدء الحديث - كانت جُلُّ ديونه صلى الله عليه وسلم من العطاء الذي يعطيه للسائلين، أو غيرهم ممن يرى فيهم الحاجة.
وفي الحديث أيضًا ما يؤكد الأخبار الصحيحة السابقة من أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يدخر شيئًا.
شراء أم عطاء؟
وهناك أساليب أخرى تبين لنا كرمه صلى الله عليه وسلم، فقد كان يلجأ إلى شراء الحاجة من صاحبها، ثم يهديها له بعد ذلك.
وهذا ما حدث لجابر بن عبدالله، وهو عائد من غزوة تبوك، وقد أعيا به جمله. فأدركه الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الطريق. فرأى ما به، فضرب الجمل، فانطلق يسير في المقدمة، فاشتراه منه رسول الله على أن يسلمه له في المدينة.
وجاء جابر ومعه جمله، فنقده الرسول صلى الله عليه وسلم الثمن وزاده قيراطًا - وكانت هذه الزيادة لا تفارق جابرًا - ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيف بالجمل ينظر إليه، ثم قال لجابر: "الثمن والجمل لك"[4].
وفي حادثة أخرى مشابهة يقول عبدالله بن عمر: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر، فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر ويرده.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "بعنيه" قال: هو لك يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعنيه"، فباعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو لك يا عبدالله بن عمر، تصنع به ما شئت"[5].
ويبدو - والله أعلم - أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكرم جابرًا وابن عمر، فكأنه لم يكن من المناسب أن يقدم لهم المال مباشرة، فكان الشراء ثم الإهداء.. وهذا من حكمته صلى الله عليه وسلم في وضعه الأمور مواضعها.
دعاء:
قال الله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾[6].
وقال صلى الله عليه وسلم: "واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم"[7].
ولمِا للشح والبخل من أثر سيء في حياة الفرد والأمة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه، فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم:
"اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل. وضلع الدين، وغلبة الرجال"[8].
[1] أخرجه البخاري برقم (1277).
[2] متفق عليه (خ 6034، م 2311).
[3] أخرجه أبو داود برقم (3055).
وقد روت كتب الشمائل عن عمر بن الخطاب: أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما عندي شيء، ولكن ابتع علي، فإذا جاءني شيء قضيته" فقال عمر: يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبي صلى الله عليه وسلم قول عمر، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالًا، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف البشر في وجهه بقول الأنصاري، ثم قال: "بهذا أمرت".
أخرجه الترمذي في الشمائل برقم (305) مختصر الألباني، وأخرجه البغوي في الأنوار برقم (367).
قال الألباني: إسناده ضعيف.