خُرَّم سلطان Hurrem Sultan هي زوجة السلطان سليمان القانوني (1520-1566م)، واسمها القديم قبل إسلامها روكسلانا، انضمت إلى الحريم بوصفها جارية وكان عمرها آنذاك يتراوح بين 14 و17 عام، ثم أصبحت زوجة للسلطان سليمان القانوني. وتوفيت عام 1558م، ودفنت في فناء جامع السليمانية في إستانبول في مقبرة تحمل اسمها. خُرَّم سلطان تُعد من الشخصيات الجدلية في التاريخ، وقد نُسِجت حولها قصص كثيرة، واشتُهر أمرها بعد بعض الأعمال الدرامية الفنيَّة، والواقع أنها امرأة صالحة، ولا يقال في حقِّها أمر مشين عن طريق الرجم بالغيب، وتُعلِّمنا في هذا الموقف الإبداع في استمرار العمل الصالح بعد الموت بعقود وقرون عن طريق الوقف: والوقف هو عمل صالح من أعمال الخير يعمد فيه الواقف إلى طريقة تجعله مستمرًّا أطول فترة ممكنة، وهو إبداع نبوي، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول الواقفين. قامت خُرَّم سلطان بوقف دار "خَاصَكِي" (زوجة السلطان) لإطعام المحتاجين في القدس الشريف: وذلك في عام 959هـ= 1552م. يتألف هذا المجمع من جامع وخان للقوافل ودار لإطعام المحتاجين ملحق بها خمس وخمسون غرفة وبالإضافة إلى القسم الرئيس من دار إطعام المحتاجين والمحاط بالجدران فقد كان هناك أيضا سلسلة من البنايات الموجودة ضمن المجمع الخيري والتي شملت المطبخ والفرن وبيت المونة ومخزن المعدات ومخزن الفحم وقاعة الأكل ودورات المياه إلى جانب الخان والاسطبل. الوقف كان عبارة عن قصر بنته سيدة من المماليك اسمها طنشق، وصار هذا البيت للعثمانيين بعد ضمِّ القدس، ووسَّعته خرَّم سلطان، وخصَّصت أوقافًا للإنفاق عليه في خمسة سناجق من الشام، وبلغ عدد القرى والمزارع الموقوفة على التكية (34) قرية ومزرعة، ما يقرب من نصفها في منطقة الرملة في فلسطين، ومن هذه القرى والمزارع أربع وقفها السلطان "سليمان القانوني" في ناحية صيدا: تعزيرًا لوقف زوجته الأصلي. كان عدد العاملين بالوقف عام (1557م) 49 شخصًا، وقد كان لكل واحد منهم عمل وراتب محدد ونصيب من الطعام الذي يُطهى في مطبخ الوقف. وفي أوائل الخمسينيات من القرن 16 كان حساء الأرز والبرغل يوزعان صباحًا ومساءً مع رغيف الخبز على ما يقرب من 500 شخص. وكان الوزن المعياري المحدد لرغيف الخبز 90 درهمًا (حوالي ربع كيلو) وفي المساء كانت تقدم وجبة حساء البرغل، أما في المناسبات الخاصة فقد كانت الموائد العامرة تقام للجميع. يذكر أحد الرحالة الفرنسي أنطوان موریسون Antoine Morison ما شاهده عام (1705م) قائلًا: "لقد كان يُقدم كل يوم ولكل فقير يأتي إلى هناك حوالي نصف كيلو من الخبز بالإضافة إلى زيت الزيتون وصحن من الشوربة المطهوة مع بعض الخضروات والتي كانت تجهز في قدور عملاقة لم نر لها مثيلًا من قبلُ". ويذكر أيضًا أن الطعام كان يُوزع في دار إطعام المحتاجين بشكل متساو للمسلمين والمسيحيين[1]. بعد ما يقرب من خمسة قرون لا نزال حتى اليوم نرى هذا الصرح واقفًا على قدميه في قلب مدينة القدس القديمة، وابتداءً من الأعوام التي تلت عام (۱۹۲۰م) وحتى يومنا هذا فقد تحولت دار خَاصَكِي لإطعام المحتاجين إلى "دار الأيتام الإسلامية لتعليم المهن والمهارات" وعلى الرغم من حدوث هذا التحول إلا أن توزيع الطعام قد استمر. لم تقتصر أعمال خُرَّم سلطان الخيرية على القدس فقط، فقد أنشأت أوقافًا كثيرة في إستانبول منها جامع وميضأة في آقسرای، وبجواره مطعمًا خيريًا "عمارت" ومدرسة ومستشفى، ومدرسة للصبيان، وفي أدرنة أنشأت عددًا كبيرًا من الأسبلة، وقصرًا للقوافل عند جسر نهر مريج، وقنوات لتوصيل المياه إلى أدرنة وجامعًا ومطعمًا خيريًّا. كما ابتنت خُرَّم سلطان مؤسستين خيريتين في مكة المكرمة والمدينة المنورة لخدمة فقراء المسلمين وطلاب العلم في الحرمين الشريفين تتكون كل مؤسسة منهما من مطعم خيري لتقديم الطعام لفقراء المسلمين وطلاب العلم، ورباط لسکنی طلبة العلم (48 غرفة)، فضلًا عن مسجد ومدرسة. وأوقفت على هاتين المؤسستين أوقافًا كثيرة للإنفاق عليهما. الاستمرار إلى هذا الوقت في نفع الوقف يثبت في رأيي النية الخالصة التي بارك فيها اللهُ إلى هذه الدرجة. هي نصيحة لأرباب الثروات أن يُبدعوا في مجال الوقف: (الإطعام – المدارس – المستشفيات – دور تعليم القرآن -سقيا الماء) مع ضمان الاستمرارية[2].
[1] أمي سنجر (Amy Singer): الأعمال الخيرية في العصر العثماني، إسطنبول، 2004م، ص69-71، 89، نقلًا عن جان ألبجوونج: السلطانتان خُرم ومهرماه قرينة القانوني وسليلته، ترجمة: وليد عبد الله القط، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2014م، ص164-168.