كان صلى الله عليه وسلم أشجعَ النَّاسِ وأثبتَهم قلبًا، لا يبلغ مبلغَه في ثبات الجأش وقوة القلب والجسم مخلوق، فهو الشجاع الفريد الذي كملت فيه صفات الشجاعة، وتمَّت فيه سجايا الإقدام وقوة البأس.
☼ ولم تكن شجاعته صلى الله عليه وسلم في ميادين الجهاد والقتال فحسب؛ بل سبقتها شجاعة أدبية عظيمة؛ ظهـرت في محـاوراته ومخاطباته مع كبـار قومه منذ حداثة سنِّه، وقبل أن يكرمَه الله بالنبوة، كما تجلت في صدعه صلى الله عليه وسلم بالحق من غير مواربة، لا يخشى في ذلك لومة لائم.
☼ وكان يُظهِرُ بُغْضَهُ الشديدَ لآلهةِ قومِه المزعومة، ويُسَفِّهُها، ويَجتنبها، دون أن يَلتفتَ لإنكارِ أحدٍ أو غضبهم لذلك (دلائل النبوة لأبي نعيم، وطبقات ابن سعد، والسيرة النبوية لابن كثير، وصحيح سنن الترمذي للألباني).
☼ فلما أكرمه الله بالنبوة صدع بكلمة التوحيد، بجنان ثابت، وفي شجاعة منقطعة النظير، وسفَّه آلهتهم وأحلامهم، ولم يأبه بعداوتهم الشديدة، ولا بإيذائهم وتهديدهم له.
☼ وكما ظهرت شجاعته صلى الله عليه وسلم الأدبية منذ حداثة سنِّه؛ فإن شجاعته القتالية أيضًا كانت حاضرة بقوة منذ نعومة أظفاره؛ حيث اشترك صلى الله عليه وسلم مع أعمامه في حرب الفِجار؛ فكان يَردُّ عنهم نبلَ عدوِّهم إذا رموهم بها.
☼ وبعد بعثته صلى الله عليه وسلم والإذن له بالقتال، سنَّ الجهاد، وضرب أروع الأمثلة البشرية على الشجاعة والثبات، وفر الكُماة والأبطال عنه غير مرة، وهو ثابت ثبات الجبال الرواسي لا يبرح، مقبل لا يدبر ولا يتزحزح، وما من شجاع سواه صلى الله عليه وسلم إلَّا وقد أُحصِيت له فَرَّة، وحُفِظَت عنه جولة.
[☼ وهو صلى الله عليه وسلم القائل: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنَّ رِجَالاً مِنَ المُؤْمِنِينَ لَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ؛ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ الله، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ» (البخاري ومسلم).
☼ وبرز يوم بدر وقاد المعركة بنفسه، وخاض غمار الموت بروحه الشريفة.
☼ وقد شُجَّ عليه الصلاة والسلام في وجهه، وكُسِرت رَباعيتُه (البخاري ومسلم)، وقُتِل سبعون من أصحابه، فما وهن ولا ضعف ولا خار، بل كان أمضى من السيف.
☼ لَا يخاف التهديد والوعيد، ولا ترهبه المواقف والأزمات، ولا تهزُّه الحوادث والملمَّات، فوَّض أمره لربِّه، وتوكل عليه، وأناب إليه، ورضي بحكمه، واكتفى بنصره، ووثق بوعده.
☼ يصفه خادمُه أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه، فيقول: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ (البخاري ومسلم).
☼ ويقول ابْنُ عُمَر َرضي الله عنه: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَنْجَدَ، وَلَا أَجْوَدَ، وَلَا أَشْجَعَ، وَلَا أَضْوَأَ وَأَوْضَأَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم (أخرجه الدارمي).
و(أنجد): أسرع في النجدة، وهذا دليل على عظم شجاعته صلى الله عليه وسلم.
☼ فكان صلى الله عليه وسلم يخوض المعارك بنفسه ويباشر القتال بشخصه الكريم، يعرِّض رُوحه للمنايا، ويقدِّم نفسه للموت، غير هائب ولا خائف، ولم يفرَّ من معركة قط، وما تراجع خطوة واحدة ساعة يحمي الوطيس، وتقوم الحرب على ساق، وتُشرع السيوف، وتمتشق الرماح، وتهوي الرءوس، ويدور كأس المنايا على النفوس، فهو في تلك اللحظة أقرب أصحابه من الخطر، يحتمون أحيانًا به وهو صامد مجاهد.
لا يكترث بالعدوّ ولو كثر عدده، ولا يأبه بالخصم ولو قوي بأسه، بل كان يعدل الصفوف ويشجع المقاتلين ويتقدم الكتائب.
☼ فعن البراء رضي الله عنه قال: «كُنَّا والله، إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ ـ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم» (مسلم).
و(احمرَّ البأسُ وحَميَ): كناية عن شدة الحرب.
☼ بل إن الفـارس الشجاع صاحب المـواقف المشهـورة والوقائـع المعـروفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ، وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ؛ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْهُ» (أخرجه أحمد).
☼ وقد فرَّ الناس يوم حنين، وما ثبت إلا هو صلى الله عليه وسلم، وطَفِق يركض بغلته قِبَلَ الكفار، وعمُّه العباس آخذٌ بلجامها، يكفُّها عن الإسراع؛ فأقبل المشركون إليه، فلما غشوه لم يفرَّ، ولم ينكص؛ بل نزل عن بغلته؛ كأنما يمكنُّهم من نفسه، وجعل يقول: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ» (البخاري ومسلم). كأنما يتحداهم ويدُّلهم على مكانه!!
☼ وكان صدره بارزًا للسيوف والرماح، يُصرع الأبطال بين يديه، ويُذبح الكماة أمام ناظريه، وهو باسم المُحيا، طلق الوجه، ساكن النفس.
☼ إنها شجاعة لم تعرف لها البشرية نظيرًا؛ ولقد حُقَّ لشجاعة الشجعان أن تتواضع لشجاعته صلى الله عليه وسلم إكبارًا لها وإجلالاً!!
☼ وكان أول من يهبُّ عند سماع المنادي، ولقد فَزِعَ أهلُ المدينة ذاتَ ليلةٍ، فانطلق أناسٌ قِبَلَ الصوت، فتلقاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم راجعًا، وقد سبقهم إلى الصَّوْتِ، وَقَدْ تبيَّنَ الْخَبَرَ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ؛ ما عليه سَرْج، وَفِي عُنُقِهِ السَّيْفُ، وهوَ يقول: «لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا» (البخاري ومسلم).
و(عُرْيٍ): ليس عليها سَرْج، و(تُرَاعُوا): الروع؛ الخوف والفزع.
فيا لها من شجاعة!! إذ هبَّ إلى موطن الخطر وحدَه، قبل أن يتحرك الناس، وهذا من أصعب الأشياء، حتى على نفوس الشجعان.
[☼ وتكالبت عليه الأحزابُ يومَ الخندق من كلِّ مكان، وضاق الأمرُ وحلَّ الكربُ، وبلغت القلوبُ الحناجرَ، وزُلزِل المؤمنون زلزالاً شديدًا، فقام صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو ويستغيث مولاه، حتى نصره ربُّه، وردَّ كيد عدوِّه، وأخزى خصومَه، وأرسل عليهم ريحًا وجنودًا، وباءوا بالخسران والهوان.
☼ وما غزواته الكثيرة التي غزاها صلى الله عليه وسلم وسطّرتها كتب السير والمغازي والأحاديث الصحيحة التي تحدثت عن بسالته وشجاعته في المعارك التي خاضها ضد الكفار والمشركين واليهود ـ والتي لم نذكر منها إلا النذر اليسيرـ ما هي إلا دليل صدق لا مرية فيه، يؤكد ويدلل على خُلُق الشجاعة والبسالة الذي كان يتحلى به ويتصف به صلى الله عليه وسلم.
☼ ولم تأخذه صلى الله عليه وسلم في الله عزَّ وجلَّ، لومةُ لائمٍ؛ فكان لا يهاب إلا الله عزَّ وجلَّ، وكان يجاهد بنفسه وماله لإعلاء كلمة الله تعالى؛ لتكون هي العليا، ولكي يظهر الحق ويزهق الباطل ويسحقه؛ فكان له صلى الله عليه وسلم ما أراد، ونصره الله عزَّ وجلَّ، وأعلى قدره وشأنه، وأظهر دينه على الأديان كلِّها.
[☼ فإذا ذُكِـرت الشجاعةُ ذُكِـر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا ذُكِـرت البطولة والبسالة ذُكِر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
☼ وكانت قوته صلى الله عليه وسلم الجسدية عظيمة، تبلغ قوة ثلاثين رجلاً؛ فعن أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ. قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَوَكَانَ يُطِيقُهُ؟! قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلَاثِينَ (البخاري ومسلم).
وهذا رُكَانَة الذي ما صرعه أحدٌ على وجهِ الأَرْضِ، قَبْلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، كما يقول هو عن نفسه- خلا يومًا برسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شِعاب مكة؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا رُكَانَةُ، ألا تَتّقِي الله، وَتَقْبَلُ مَا أَدْعُوك إلَيْهِ؟»، قال: «إنّي لَوْ أَعْلَمُ أَنّ الّذِي تَقُولُ حَقٌّ لاتّبَعْتُك»، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَفَرَأَيْتَ إنْ صَرَعْتُك، أَتَعْلَمُ أَنَّ مَا أَقُولُ حَقٌّ؟» قال: «نعم». قال: «فَقُمْ حَتّى أُصَارِعَك».
قال: فَقَامَ إلَيْهِ رُكَانَةُ يُصَارِعُهُ، فَلمَّا بَطَشَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَضْجَعَهُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: «عُدْ يَا مُحَمّدُ». فَعَادَ فَصَرَعَهُ. فَقَالَ: «يَا مُحَمّدُ، والله، إنَّ هَذَا لَلْعَجَبُ، أَتَصْرَعُنِي؟!!»(1).
فصرعه صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل مرة على مائة من الغنم، فلما كان في الثالثة قال: «يا محمد، ما وضعَ ظهري على الأرضِ أحدٌ قبْلَك، وما كانَ أحدٌ أبغض إليَّ منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسولُ الله»، فقام عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وردَّ عليه غنمه (السيرة النبوية لابن كثير).
[☼ ومـع هـذه الشجاعة البالغة، وتلك القـوة العـظيمة التي كان يتحـلى بها صلى الله عليه وسلم؛ إلا أنها لم تكن أبدًا شجاعة تهور، ولا قوة بطش؛ وإنما كانت شجاعة مضبوطة بالعقل، وقوة مشـوبة بالرحمة؛ فلم يستعملها قطُّ إلا في مواطـن الوغى في الجهاد في سبيل إعـلاء كلمة الله.
☼ فلم يَنتقِمْ صلى الله عليه وسلم لنفسِه قطُّ، ولم يضرب بيده إلا في سبيل الله؛ فعن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: «... وما انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه قطُّ، إلا أن تُنْتَهَك حرمةُ الله؛ فينتقم لله تعالى» (البخاري ومسلم).
☼ وقالت رضي الله عنها: «ما ضربَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خادمًا له ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئًا قطُّ، إلا أن يجاهدَ في سبيل الله» (البخاري ومسلم).
وصدق الله: " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ".
* * *
1(1) والراوي هو: إسحاق بن يسار، والقصة في كتب السيرة، راجع السيرة النبوية لابن كثير (2/82)، وحديث مصارعة ركانة في سنن أبي داود ، وحسنه الألباني في إرواء الغليل.