الملائكةُ خلقٌ من خلقِ اللهِ، خلَقَهم من نورٍ، واصطفاهم لعبادتِه وتنفيذِ أمرِه، وجعلَ لهم من المكانةِ والخصائصِ والإمكاناتِ للقيامِ بأمرِه ما لا يصحُّ إيمانُ امرئٍ إلا بتصديقِه يقينًا لا يَعْتريه شكٌّ أو تأويلٌ، وصارَ الكفرُ بتلك العقيدةِ ضلالًا غارقًا في البُعدِ والتِّيهِ، مُوجِبًا لحبوطِ العملِ والخلودِ في النارِ، كما قال -تعالى-: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 136]. ولمّا كان عالَمُ الملائكةِ من عالَمِ الغيبِ، وكان العقلُ البشريُّ عاجزًا عن إدراكِ تفصيلِه؛ صارتْ معرفةُ ذلك العالَمِ الملائكيِّ قَصْرًا على ما وردَ ذِكرُه في نصوصِ الوحيِ المعصومِ الذي أَذِنَ اللهُ بإطْلاعِ خلْقِه عليه بنصٍّ من كتابٍ سماويٍّ أو خبرِ نبيٍّ، كما قال -تعالى-: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴾ [الجن: 26، 27]، وكان ما وراءَ ذلك من تكلُّفِ التخرُّصِ المذمومِ والرَّجْمِ بالغيبِ من مكانٍ بعيدٍ. هذا، وإنّ مما أبانَه الوحيُ ضخامةُ خلْقِ جمعٍ من الملائكةِ وشدةِ قوَّتِهم، كما قال -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، وروى ابنُ مسعودٍ -رضيَ اللهُ عنه- أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ (رواه البخاريُّ ومسلمٌ)، وقال صلى الله عليه وسلم: " رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ، سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ ما بين السماءِ إلى الأرضِ " رواه مسلمٌ. وعرشُ الرحمنِ الذي يستوي عليه أعظمُ مخلوقاتِه، وقد قرّبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَظَمَةَ خَلْقِه إزاءَ خَلْقِ كرسيِّ الرحمنِ بمَثَلِ حلْقةٍ صغيرةٍ مُلقاةٍ في أرضٍ مُقْفِرَةٍ متراميةِ الأطرافِ شاسعةِ الأرجاءِ كما قرّبَ عظمةَ الكرسيِّ إزاءَ السماواتِ السبعِ الشِّدادِ بذلك المَثَلِ، فقال: " ما السماواتُ السبعُ في الكرسيِّ إلا كحلقةٍ ملقاةٍ بأرضٍ فلاةٍ. وفضلُ العرشِ على الكرسيِّ كفضلِ تلك الفلاةِ على تلك الحلقةِ " رواه ابنُ حبانَ في صحيحِه وصحَّحَه الألبانيُّ. ويَحْمِلُ ذلك العرشَ العظيمَ يومَ القيامةِ ثمانيةٌ من الملائكةِ الكرامِ؛ كما قال -تعالى-: ﴿ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 17]. فكيف يكونُ عِظَمُ خلْقِ أولئك الملائكةِ الذين أقْدرَهمُ اللهُ -جلَّ وعلا- على حملِ هذا العرشِ العظيمِ؟! قد أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن إحدى صفاتِ واحدٍ منهم في بيانِ قياسِ ما بين عاتقِه وشحمةِ أُذُنِه حين أَذِنَ اللهُ له بالإخبارِ عنها بعد إنبائه بها، فقالَ: " أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ؛ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ ". رواه أبو داودَ وقال ابنُ حجرٍ: " إسنادُه على شرطِ الصحيحِ "وصحَّحَه الألبانيُّ، وفي روايةِ الطبرانيِّ التي صحَّحَها الألبانيُّ: " أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، وَعَلَى قَرْنِهِ الْعَرْشُ، وَبَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ خَفَقَانُ الطَّيْرِ سَبْعمِائَةِ سَنَةٍ، يَقُولُ الْمَلَكُ: سُبْحَانَكَ حَيْثُ كُنْتَ! "؛ إذا كان هذا عِظَمُ خلْقِه فيما بين شحمةِ أُذُنِه وعاتقه؛ فكيفَ تكونُ عظمةُ سائرِ خلْقِه؟!
عبادَ اللهِ!
وغالبًا ما تكونُ القوةُ مدعاةً للطغيانِ والاستكبارِ عن العبادةِ والاستنكافِ عن الخضوعِ، إلا أنَّ الملائكةَ مع ضخامةِ خلْقِهم وشدةِ قوَّتِهم قد بلغوا في مقامِ العبوديةِ والذُّلِ للهِ والخضوعِ له الغايةَ، كما قال -تعالى: ﴿ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 19، 20]، وقال: ﴿ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ﴾ [فصلت: 38]. يَحمِلُهم على ذلكمُ الانقطاعِ التعبديِّ عظيمُ خشيتِهم للهِ؛ كما قال -تعالى-: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 26 - 28]، وقال -سبحانه-: ﴿ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [النحل: 48 - 50]، وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، أطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوضِعُ أرْبَع أصَابعَ إلاَّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا للهِ -تَعَالَى-.. والله لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بالنِّساءِ عَلَى الفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأرُونَ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- " رواه الترمذيُّ وحسَّنَه وصحَّحَه الألبانيُّ. وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ للهِ ملائكةً تَرْعُدُ فرائصُهم من خِيفتِه، ما منهم مَلَكٌ يَقْطُرُ دمعُه من عينِه إلا وقعتْ مَلَكًا قائمًا يصلي، وإنَّ منهم ملائكةً سجودًا منذُ خَلَقَ اللهُ السماواتِ والأرضَ لم يرفعوا رؤوسَهم، لا يرفعونَها إلى يومِ القيامةِ، وإنَّ منهم ركوعًا لم يرفعوا رؤوسَهم منذ خلقَ اللهُ السماواتِ والأرضَ، فلا يرفعونها إلى يومِ القيامةِ، فإذا رفعوا رؤوسَهم ونظروا إلى وجهِ اللهِ قالوا: سبحانَك ما عبدناك كما ينبغي لك! " رواه محمدُ بنُ نَصْرٍ وقال ابنُ كثيرٍ عن إسنادِه: " وهذا إسنادٌ لا بأسَ به ". ووصفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خوفَهم حين يَتلقَّوْنَ الوحيَ عندما يقضي اللهُ أمرَه في السماءِ، فيتملَّكُ الفَزَعُ قلوبَهم، ويأخذُ منهم كلَّ مَأْخذٍ، وتَضرِبُ بأجنحتِها تَطامُنًا لعظمةِ اللهِ وخضوعًا لأمرِه، في مشهدٍ مَهيبٍ بلغَ فيه الفَزَعُ والخوفُ مَبْلغًا عظيمًا كمَبْلَغِ الفَزِعِ حين يُذْعِرُه إزعاجُ صوتِ سقوطِ سلسلةِ الحديدِ الضخمِ على الصخرةِ الصَّمَّاءِ الملساءِ الضخمةِ، فلا ينطقون بعدَها إلا بعباراتِ الإجلالِ والتعظيمِ لقدْرِه والتصديقِ والامتثالِ لأمرِه، وذلك بعدَ أنْ يُسَرَّى عنهمُ الفَزَعُ الذي أَلجمَ مَنطقَهم وعَقَدَ على قولِهم، فقال: " إِذَا قَضَى اللهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا ﴿ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [سبأ: 23] " رواه البخاريُّ ومسلمٌ. وجبريلُ الروحُ الأمينُ -عليه صلواتُ اللهِ وسلامُه- أحبُّ الملائكةِ إلى اللهِ، وأقربُهم إليه، الذي جعل اللهُ له من المكانةِ والقوةِ ما وصفَه بقولِه -سبحانه-: ﴿ نَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾ [التكوير: 19 - 21]- قد وصفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حالَه حين تَملَّكَه شعورُ الخشيةِ من مقامِ ربِّه ليلةَ أَسرى به إلى السماواتِ العُلى وانتهى به إلى سدرةِ المنتهى كحالِ البساطِ المُلقى على الأرضِ وقد تغيّرَ لونُه وتخلَّقَ فقال: " لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مَرَرْتُ عَلَى جِبْرِيلَ فِي الْمَلإِ الأَعْلَى كَالْحِلْسِ الْبَالِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ -عَزَّ وجل- " رواه ابنُ أبي عاصمٍ وحسَّنَه الألبانيُّ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ.
أما بعدُ. فاعلموا أنَّ أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ...
أيها المؤمنون!
إنّ استشعارَ وَجَلِ الملائكةِ من ربِّهم وخشيتِهم له مع قوةِ خَلْقِهم وعصمتِهم من الذنوبِ من حين خَلَقَهم إلى أنْ يقضيَ الموتُ بانتهاءِ آجالِهم لَيدعو إلى تأملِ سببِ تلك الخشيةِ؛ لِيأخذَ به السائرُ إلى ربِّه حين يَقتفي هُدى الملائكةِ المعصومين وهو محفوفٌ بين ذنبٍ يُواقعُه ونعمةٍ يَقِلُّ عندها شكرُه؛ ليكونَ ذلك مزادةَ بِرٍّ تُدْنيه من ربِّه، ويعالجُ بها عِثارَ الطريقِ. فخوفُ الملائكةِ نابعٌ من عظيمِ علمِهم باللهِ -جلّ جلالُه-؛ إذ الخشيةُ خوفٌ مقرونٌ بالعلمِ، كما قال -تعالى-: ﴿ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 28]، ومن كان باللهِ أعرفَ كان منه أخوفَ، كما قال -سبحانه: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ أَتْقَاكُمْ وأعلمَكم بالله أنا " رواه البخاريُّ. والملائكةُ أقربُ الخلقِ إلى اللهِ -سبحانه-، وعلى حسبِ القُرْبِ والمنزلةِ من اللهِ تكونُ الخشيةُ، فكلَّما كان العبدُ أقربَ إلى اللَّهِ كان خوفُه منه أشدَّ؛ لأنَّه يُطالَبُ بما لا يُطالَبُ به غيرُه، ويجبُ عليه من رعايةِ تلك المنزلةِ وحقوقِها ما لا يجبُ على غيرِه. ومَثَلُ ذلك في الواقعِ الماثلُ بين يدي أحدِ الملوكِ المشاهِدُ له؛ يكونُ أشدَّ خوفًا منه من البعيدِ عنه؛ بحسبِ قربِه منه ومنزلتِه عنده ومعرفتِه به وبحقوقِه، وأنَّه يُطالَبُ من حقوقِ الخدمةِ وآدابِها بما لا يُطالَبُ به غيرُه، فهو أحقُّ بالخوفِ من البعيدِ. ويقينُ العلمِ بانفرادِ اللهِ بالهدايةِ والغوايةِ، وتقليبِ القلوبِ وتصريفِها وإزاغتِها، وأنَّ العبدَ مفتقرٌ لتثبيتِ ربِّه إيمانَه كلَّ لحظةٍ، وأنّه لا غنى له عنه طرفةَ عينٍ من أعظمِ ما يَحملُه على لزومِ عَتَبةِ الخشيةِ. فكان علمُ الملائكةِ بربِّهم، وقربُهم منه، وافتقارُهم إليه سببُ خشيتِهم له، كما ذكر ابن القيم.