آداب الاختلاف في الرأي: بادئ ذي بدء، فإن الاختلاف في الرأي سنة كونية، وجميع الآراء الفقهية تحترم طالما أن لها سندها الصحيح ولا تمس ثوابت العقيدة ... فما من
آداب الاختلاف في الرأي:
بادئ ذي بدء، فإن الاختلاف في الرأي سنة كونية، وجميع الآراء الفقهية تحترم طالما أن لها سندها الصحيح ولا تمس ثوابت العقيدة ... فما من أحد إلا يؤخذ من علمه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد اختلف الأئمة في كثير من الامور الاجتهادية، كما اختلف الصحابة والتابعون قبلهم، وهم جميعا هداةً مهديون ما دام الاختلاف لم ينجم عن هوى نفس او شهوة او رغبة في الشقاق، فقد كان الواحد منهم يبذل جهده وما وفي وسعه ولا هدف له إلا اصابة الحق وارضاء الله جل شأنه.
ولا أدل على صحة ذلك من الحديث الشريف عن أبي قَتادَةَ رَضِيَ اللهُ عنه: (أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لأبي بكرٍ: متى تُوتِر؟ قال: أُوتِرُ من أولِ اللَّيل، وقال لعمر: متى توتر؟ قال: آخِرَ اللَّيلِ، فقال لأبي بكر: أخَذَ هذا بالحزمِ، وقال لعمر أخذ هذا بالقُوَّة).
وقد أقر هذا الحديث الشريف صحة اختلاف الرأي بين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما بشأن وقت صلاة الوتر، فأبو بكر يوتر في أول الليل أما عمر فيوتر آخر الليل، فقد أقر النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صحة صلاة كل منهما فقال لأبي بكر: أخَذَ هذا بالحزمِ، وقال لعمر أخذ هذا بالقُوَّة.
وقد نصح الأزهر بأن الشخص إذا وَثِقَ باستيقاظه أواخرَ الليل فيُستحب له أن يؤخرَ وتره ليؤديه آخر الليل، وإلا فيستحب تقديمه قبل النوم؛ لما رواه مسلم في صحيحه عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ".
وقال الإمام مالك: "لا يؤخذ هذا العلم من أربعة، ويؤخذ ممن سواهم: لا يؤخذ من سفيه، ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو إلى بدعته، ولا من كذّاب يكذب في أحاديث الناس، وإن كان لا يتهم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحمل ويحدث به".
ولذلك فان اهل العلم في سائر العصور كانوا يقبلون فتاوى المفتين في المسائل الاجتهادية ما داموا مؤهلين لذلك، فيقرون الرأي الصحيحً، ويستغفرون للمخطئ، ويحسنون الظن بالجميع
كما كان اهل العلم يسلمون بأحكام القضاء أياً كان المذهب الذي صدرت بناءً عليه، وقد يحكم القضاء بخلاف مذاهب الأئمة عند الحاجة بدون إحساس بالحرج، فالجميع يأخذ من مصدر واحد وان اختلفت الأسانيد، ونراهم يبدون الرأي بقول: «هذا احوط» أو «أحسن» أو «هذا ما ينبغي» أو «نكره هذا» أو «لا يعجبني» فلا تضييق ولا اتهام ولا حجر على رأي له من النص مستند بل يسر وسهولة وانفتاح على الناس لتيسير امورهم.
وكان الإمام مالك اثبت الائمة في حديث أهل المدينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوثقهم اسنادا، وأعلمهم بقضايا عمر وأقاويل عبدالله بن عمر وعائشة وأصحابهم من الفقهاء السبعة، وبه وبأمثاله قام علم الرواية والفتوى، وقد ألف كتابه «الموطأ» وقد أورد فيه القوي من حديث أهل الحجاز، كما نقل ما ثبت لديه من اقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وقد اعتبر «الموطأ» ثمرة جهد الامام مالك لمدة أربعين عاما، وهو أول كتاب في الحديث والفقه ظهر في الإسلام، وقد وافقه على ما فيه سبعون عالما من معاصريه من علماء الحجاز.
وعلى الرغم من ذلك حين أراد المنصور كتابة عدة نسخ منه وتوزيعها على البلاد، وجعل الناس يلتزمون بالفقه الذي فيه حسماً للخلاف، كان الامام مالك أول من رفض ذلك، فقد روي عنه أنه قال: «يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فان الناس قد سبقت لهم اقاويل، وسمعوا أحاديث ورووا روايات وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وأتوا به من اختلاف الناس، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم. فقال الخليفة "وفقك الله يا أبا عبدالله".
كما أنه بعد انتهاء مناظرة -سأوردها في المقال التالي إن شاء الله- حدثت بين كل من الإمامين مالك وأبي حنيفة حين التقيا في الحج في إحدى السنوات وهما صاحبا مدرستين مختلفتين، سئل الإمام مالك: كيف وجدت أبا حنيفة؟ فأخرج مالك منديلاً ومسح عرقه وقال: عرقت والله من أبي حنيفة، والله إنه لفقيه، والله ما رأيت أحداً يناظر كهذا الرجل، والله لو قال لكم أن هذا العمود من الحديد ذهب لأقنعكم برأيه.
وسئل الإمام أبو حنيفة فقال: ناظرت المئات من الرجال، ما رأيت أحداً أسرع في قبول الحق من مالك، والله لقد أحببته.
رضي الله عنهم جميعا.