نقِف اليوم مع التي تُلهِي الإنسان وتشغَله عن طاعة الله - تعالى - مع التي تضرُّ بدين المسلم كضرر الذئب الضاري على الغنم، مع التي تؤدِّي إلى الهلاك وإراقة الدماء، مع الدنيا الفانية، مع التي قال - تعالى - عنها: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]، {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45].
مع الدنيا التي قال عنها نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم - يومًا لأصحابه: ((فَوالله مَا الفَقْرَ أخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَط الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَتْهُمْ))؛ متفقٌ عَلَيْهِ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كانت الدنيا تعدِل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء))؛ رواه الترمذى رقم (2321) فى الزهد.
ولا تتصوَّر أن الذم الوارد في القرآن والسنَّة للدنيا يرجع إلى زمانها من ليل ونهار، فلقد جعل الله الليل والنهار خِلفة لِمَن أراد أن يذكَّر أو أراد شكورًا، لا يرجع الذم إلى مكانها ألا وهو الأرض؛ إذ إن الله قد جعل الأرض لبنى آدم سكَنًا ومستقَرًّا.
إنما الذم الوارد في القرآن والسنة يرجع إلى كل معصية تُرْتَكب في حق ربنا - جل وعلا.
والسؤال الذي نطرحه على مائدة اليوم: يا ترى لماذا أصبحنا نحب الدنيا ونكره الموت؟ سؤال يدور في بال الكثير من المسلمين في دنيا اليوم، والكل يبحث عن الجواب.
فتعالَ معي إلى العارف بالله أبي حازم، وهو يجيبنا على هذا السؤال عندما استدعاه أمير المؤمنين سليمان بن عبدالملك أحد أمراء الدولة الأموية.
فعندما دخل العالم على الأمير، وجَّه الأمير إليه هذا السؤال: "يا أبا حازم، لماذا أصبحنا نحب الدنيا ونكره الموت؟"، واسمعوا إلى إجابة هذا الإمام التي لو أُلقِيت على جبلٍ أشمَّ، لتَحرك الجبل من مكانه، قال: "يا سليمان، لأنكم عمَّرتم الدنيا وخرَّبتم الآخرة، ومُحَالٌ أن يحب الإنسان الخروجَ من العمار إلى الخراب"، نعم والله كيف لا يحب الدنيا مَن عمَّرها؟! وكيف يحب الآخرة من خرَّبها؟ اسمع يا مَن عمرت دنياك الفانية وخربت الآخرة الباقية:
ذُكِر في الخبر عن سيدنا عيسى - عليه السلام - أنه كان ذات يوم ماشيًا فنظر، فإذا امرأة عليها من كل زينة، فذهب ليغطِّي وجهه عنها فقالت: اكشف عن وجهك، فلستُ بامرأة، إنما أنا الدنيا، فقال لها: أَلَكِ زوج؟ قالت: لي أزواج كثر، فقال: أكُل طلَّقك؟ قالت: بل كُلاًّ قتلتُ، فقال: أحَزِنتِ على أحد منهم؟ فقالت: هم يحزنون عليَّ ولا أحزن عليهم، ويبكون عليَّ ولا أبكي عليهم.
كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: "إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبِلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل".
اسأل نفسك - أخي المسلم -:
هل أنت من أبناء الدنيا أم من أبناء الآخرة؟ هل أنت في تعاملك مع الناس تبتغي الدنيا أم الآخرة؟ هل أنت من المسارعين في فعل الخيرات أم من المسارعين في فعل المنكرات؟
أنا أدعوك إلى أن تنظر في واقع المسلمين اليوم: كم من الناس نراهم يتراكضون لطلب الدنيا مسرِعين؛ مخافة أن تفوتهم، ولكن نراهم يتأخَّرون عن حضور المساجد لأداء الصلوات الخمس التي هي عمود الدين؟!
وكم من الناس مَن نراهم يجلسون في الشوارع والدكاكين الساعات الطويلة، وقد يُقاسون شِدَّة الحر؛ لطلب الدنيا، بينما لا نراهم يصبرون على الجلوس دقائق معدودةً في المسجد لأداء الصلاة أو تلاوة القرآن؟!
وكم نرى من شباب المسلمين مَن يتسابقون إلى ملاعب الكرة، ومقاهي الانترنت، والألعاب الإلكترونية، ويدفعون الأموال في سبيلها، وربما قضوا الساعات الطويلة، وكل ذلك في سبيل اللهو والغفلة، ولكن إذا دُعوا إلى حضور الصلوات في المساجد بـ (حي على الصلاة، حي على الفلاح)، أعرضوا عن داعي الفلاح، وكأن المؤذِّن يدعوهم إلى سجن أو عقوبة؛ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 48- 49]، {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 42- 43].
قال سعيد بن المسيب في معنى هذه الآية: "كانوا يسمعون (حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح) فلا يجيبون وهم أصحاء سالمون"، وقال كعب الأحبار: "والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعة".
إن كثيرًا من الناس أصبح يصبر على تحمُّل المشاقِّ في طلب الدنيا ولا يصبر على أدنى مشقة في طاعة الله، ونراهم يغضبون إذا انتُقص شيء من دنياهم، ولا يغضبون إذا انتُقص شيءٌ من دينهم.
وكثيرٌ من الناس - لشدة حبه للدنيا - لا يقنع بما أباح الله له من المكاسب، فتجده يتعامل بالمعاملات المحرَّمة والمكاسب الخبيثة؛ من الربا، والرشوة، والغش في البيع والشراء، بل يفجُر في خصومته، أو يقيم شهادة الزور؛ ليستولي على مال غيره بغير حقٍّ، وهو يسمع قول الله - تعالى -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278]، وقوله - تعالى -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، وقوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثمنًا قليلاً} [آل عمران: 77].
لقد استولى حبُّ الدنيا على القلوب فآثرتها على الآخرة، فبعضهم شغلته الدنيا عن الصلاة، وإذا صلى فربما لا يصليها مع الجماعة، أو ربما يؤخرها عن وقتها، وحتى في أثناء صلاته تجد قلبه منصرفًا عن صلاته إلى الدنيا؛ يفكِّر فيها، ويعدُّ أمواله، ويتفقَّد حساباته، ويتذكَّر ما نسي من معاملاته، وكثير من الناس حملهم حبُّ الدنيا وإيثارها على الآخرة على البُخل والشُّح بالنفقات الواجبة والمستحبَّة حتى بَخِل بالزكاة التي هي رُكن من أركان الإسلام.
يُحكى أن رجلاً كان يحاسِب نفسَه، فحسب يومًا السنوات التي عاشها، فوجدها ستين سنة، فحسب أيامها، فوجدها واحدًا وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ صرخة وخرَّ مغشيًّا عليه، فلمَّا أفاق قال: يا ويلتاه! أنا آتي ربي بواحدٍ وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب؟!
يقول هذا لو كان يقترِف ذنبًا واحدًا في كل يوم، فكيف بذنوب كثيرة لا تُحصَى؟!
ثم قال: آه عليَّ، عمرتُ دنياي، وخرَّبتُ أخراي، وعصيتُ مولاي، ثم لا أشتهي النقلة من العمران إلى الخراب، وأنشد:
وأختم كلامي بقصَّة عظيمة، فيها درسٌ عظيم لكل مَن باع دينه من أجل الدنيا، ولكل مَن عمر دنياه وخرَّب آخرته، اسمع إليها:
جاء رجل إلى سيدنا عيسى - عليه السلام - وقال له: أريد أن أكون معك وأصحبك، فوافق سيدنا عيسى - عليه السلام - على ذلك، فانطلقا حتى وصلا إلى نهر، فجلسا يتغديان ومعهما ثلاثة أرغفة، فأكلا رغيفين وبقي رغيف ثالث، فقام عيسى - عليه السلام - إلى النهر فشرب ثم رجع، فلم يجد الرغيف، فقال للرجل: مَن أخذ الرغيف؟ فقال: لا أدري، فانطلق ومعه صاحبه، فرأى ظبية ومعها خشفان لها، فدعا أحدهما فأتاه فذبحه وأكل منه هو وذاك الرجل، ثم قال للخشف: قُمْ بإذن الله، فقام فذهب، فقال للرجل: أسالك بالذي أراك هذه الآية، مَن أخذ الرغيف؟ فقال: لا أدري، ثم انتهيا إلى وادي ماء، فأخذ عيسى - عليه السلام - بيد الرجل فمَشَيَا على الماء، فلمَّا جاوَزَا قال له: أسألك بالذي أراك هذه الآية، مَن أخذ الرغيف؟ فقال: لا أدري، فانتهيا إلى مفازة فجَلَسَا، فأخذ عيسى - عليه السلام - يجمع ترابًا وكثيبًا، ثم قال: كن ذهبًا بإذن الله - تعالى - فصار ذهبًا، فقسَّمه ثلاثة أثلاث ثم قال: ثلث لي، وثلث لك، وثلث لِمَن أخذ الرغيف، فقال: أنا الذي أخذتُ الرغيف، فقال: كله لك وفارقه عيسى - عليه السلام.
فانتهى إليه رجلان في المفازة ومعه المال، فأرَادَا أن يأخذاه منه ويقتلاه، فقال: هو بيننا أثلاثًا فابعثوا أحدكم إلى القرية حتى يشتري لنا طعامًا نأكله، قال: فبعثوا أحدهم فقال الذي بُعِث: لأي شيء أُقَاسم هؤلاء هذا المال؟ لكني أضع في هذا الطعام سمًّا فأقتلهما وآخذ المال وحدي، قال: ففعل، وقال ذانك الرجلان: لأي شيء نجعل لهذا ثلث المال، ولكن إذا رجع قتلناه واقتسمنا المال بيننا، قال: فلما رجع إليهما قتلاه وأكلا الطعام فماتا؛ فبقي ذلك المال في
الطعام فماتا؛ فبقي ذلك المال في
المفازة، وأولئك الثلاثة عنده قتلى، فمرَّ بهم عيسى - عليه السلام - على ذلك الحال فقال لأصحابه: هذه الدنيا فاحذروها.
وأرجو من المسلمين ألا يفهموا من خلال كلامنا أننا ننادي بتحريم الطيبات وتضييع الأموال، وبلبس المرقع من الثياب، والجلوس في البيوت وانتظار الصدقات، لا والله، اعمل فإن العمل الحلال والكسب الحلال والنفقة الحلال عبادةٌ يتقرَّب بها العبد إلى الله، ولكن بشرط أن تكون الدنيا في الأيدي ولا تكون في القلوب، وشعارنا كما قال الإمام علي: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا".
فأين المسافرون بقلوبهم إلى الله؟ أين المشمِّرون إلى المنازل الرفيعة والدرجات العالية؟ أين عُشَّاق الجِنَان وطُلاب الآخرة؟
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.