عني القرآن الكريم عناية كبيرة بالبناء الأخلاقي للإنسان والارتقاء بسلوكه، ليبني ويعمر ويكون بحق خليفة الله في أرضه، ويؤدي رسالته في الحياة على الوجه الأكمل، ويسهم بفاعلية في بناء مجتمعه
عني القرآن الكريم عناية كبيرة بالبناء الأخلاقي للإنسان والارتقاء بسلوكه، ليبني ويعمر ويكون بحق خليفة الله في أرضه، ويؤدي رسالته في الحياة على الوجه الأكمل، ويسهم بفاعلية في بناء مجتمعه ونهضته، ويواجه بقوة وصلابة كل التجاوزات الأخلاقية، ويقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن وعي وعلم وبصيرة.
والقرآن الكريم- وهو الدستور الشامل لحياة المسلمين العقدية والتشريعية والأخلاقية- من الطبيعي أن يعتني بالأخلاق، فقد جاء حاملاً لكل ما ينظم علاقة الإنسان بخالقه، وما ينظم علاقته بغيره من كل أفراد المجتمع، وما ينظم علاقته بكل عناصر الكون من نبات وماء وهواء ومخلوقات أخرى.
إن أخلاقيات القرآن توفر للإنسان السعادة والرضا وتزيل كل ما في نفسه من رواسب وأحقاد تجاه الآخرين حتى ولو أساؤوا إليه، كما أن هذه الأخلاق الفاضلة تحمي المجتمع من الشرور وتوفر لكل أفراده الأمن والاستقرار. والمتأمل في العطاء الأخلاقي للقرآن الكريم كما يقول المفكر الإسلامي د. محمود حمدي زقزوق، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر- يجد دعماً واضحاً ومباشراً لكل ما هو راق ومتحضر من السلوك، فالقرآن يسمو بأخلاق الإنسان فوق الصغائر، ويرسم له حياة تغلفها كل المعاني الإنسانية الرفيعة.
المسلم الحق
ويضيف: إن القرآن الكريم يرسخ في نفس المسلم مكارم الأخلاق، فالمسلم الحق مثال في الصدق، والأمانة، والسخاء، والشجاعة، والتواضع، والوفاء، والحياء، والعفة، والحلم، والصبر، والعدل، والإحسان، والرحمة، والغيرة على الحرمات، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وإكرام الجار، والتسامح مع المخالف، والإيثار، والتعاون على البر والتقوى، وتوقير الكبير، والرحمة بالصغير، ورعاية اليتيم، والحض على طعام المسكين، وإعطاء كل ذي حق حقه.
وهذا العطاء الأخلاقي الذي تزخر به نصوص القرآن الكريم يجسد - كما يقول د. زقزوق - الصورة الحضارية لخاتم الكتب السماوية، ويفرض على المسلمين لكي يغيروا واقعهم أن يعودوا إلى رسالتهم السماوية، ليهتدوا بهديها، وينهلوا من عطائها الأخلاقي، ليقودوا مسيرة الحق والخير على ظهر الأرض، ويواجهوا بشجاعة كل التجاوزات السلوكية التي شاعت بينهم بسبب بعدهم عن هداية القرآن الكريم، وانصرافهم عما جاء به من سلوكيات حضارية.
لقد جاء القرآن الكريم متضمناً كل ما يدعو إلى الفضائل وينهى عن الرذائل، جاعلاً سعادة الدنيا والآخرة جزاء من التزم بالفضائل، والشقاء والعذاب في الدارين عقاب من لم يلتزم بها، وقد نقل القرآن بتعاليمه وآدابه الأخلاقية الناس من الأنانية البغيضة إلى آفاق الإيثار الجميل، ومن القسوة والعنف والرغبة في الانتقام إلى العفو والرحمة والتسامح، واستطاع بقيمه النبيلة إقامة مجتمع تسود فيه الأخلاق الفاضلة وتحترم كرامة الإنسان من حيث هو إنسان، من دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو العرق أو ما شاكل ذلك من فروق مصطنعة.
تعاليم إلهية
والقرآن- كما يوضح عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر- لم يرد بهذه التعاليم إقامة مذهب في الأخلاق على غرار مذاهب الأخلاق اليونانية أو ما شابهها. فهذه المذاهب من صنع الإنسان الذي يخطئ ويصيب، أما تلك التعاليم القرآنية فهي من عند الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
ومن عظمة القرآن الكريم أنه لم يتعامل مع الأخلاق الفاضلة على أنها جماليات للسلوك البشري من حق الإنسان الحرص عليها أو التخلي عنها.. بل جعل الحرص عليها والتمسك بها من مكملات الإيمان والتقوى..
ومن النصوص القرآنية التي ترسخ جانباً من الأخلاق الإنسانية الفاضلة في نفس المسلم، ويربط الخالق فيها بين الأخلاق والإيمان قوله سبحانه: «قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون».. وهنا نلاحظ كيف يمزج القرآن الكريم بين الأخلاق الربانية والأخلاق الإنسانية.. كما نجد ذلك واضحاً في نصوص قرآنية كثيرة منها ما ورد في أوصاف المتقين في أول سورة البقرة، وفي أوصاف أولي الألباب في سورة الرعد، وفي أوصاف عباد الرحمن في أواخر سورة الفرقان، وفي أوصاف المحسنين في سورة الذاريات، وفي أوصاف الأبرار في سورة الإنسان، وفي غيرها من سور القرآن.
ولذلك تعددت في ختام الآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عن الأخلاق عبارات كريمة من أمثال: (والله يحب المحسنين- والله يحب الصابرين- إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين- إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) كما تنوعت التحذيرات القرآنية من الأخلاق السيئة من أمثال قوله سبحانه: (إن الله لا يجب الخائنين- والله لا يحب الظالمين- والله لا يحب المفسدين- إن الله لا يحب كل مختال فخور).
منظومة أخلاقية راقية
ويقول د. علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، ومفتي مصر السابق: من حقنا أن نفخر بالقيم والأخلاق القرآنية، وفي مقدمتها قيمة التواضع واحترام الآخرين، والرفق بهم، ومن يقرأ نصوص القرآن ويقف على ما زخر به من أخلاق وآداب وقيم لأدرك أن عطاء هذا الكتاب الخالد يتواصل لكل الأجيال ويهذب سلوك كل من يستوعب آياته، وواجب المسلمين اليوم أن يعودوا إلى قيم وأخلاق دينهم حتى يسترجعوا الرقي السلوكي الذي يفتقدونه الآن.
ويوضح عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر أن المنظومة الأخلاقية القرآنية متكاملة ومتماسكة وتسعد الكبار والصغار، وبدونها تتحول العلاقة بين الناس إلى سلوكيات شاذة وغير مقبولة ويعاني الإنسان من مشكلات نفسية واجتماعية عديدة.
ويؤكد د. جمعة أن قيم القرآن وأخلاقه من تسامح وعفو عند المقدرة ورحمة وتعاون وعطف على الضعيف ومناصرة للمظلوم وغير ذلك هي التي تزكي النفوس وتريح الأعصاب، وتنشر الرضا بين الجميع والإنسان الذي يتخلق بهذه الأخلاق الكريمة تستقيم حياته، وينعم بالسكينة والاستقرار النفسي والاجتماعي، وكل هذا يصب في النهاية في مصلحة الإنسان كفرد وفي مصلحة كل المحيطين به، فالإنسان المتوتر الغاضب الناقم على ما آل إليه حاله وحال المجتمع الذي يعيش فيه يفرض التوتر والقلق على كل المحيطين به.
لا ظلم.. ولا قهر
ويشدد عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر على أن الأخلاق القرآنية هي وسيلتنا لتحقيق الحياة الآمنة المستقرة التي تعم فيها السكينة والطمأنينة، ويأمن الجميع فيها على أرواحهم وأموالهم وحرماتهم، لأن قيم القرآن وأخلاقه عندما تسيطر على سلوك الإنسان وتنتشر بين الناس، تحل الرحمة محل القسوة، ويحصل كل إنسان على حقه، من دون أن يتجاوز إلى حقوق الآخرين، فلا ظلم ولا قهر، ولا عدوان ولا قسوة، ولا استغلال ولا انتهاك لحرمات الناس.
ويوضح أن سلوكيات المسلم المنضبطة بأخلاق القرآن ليس مصدرها الخوف من سيف القانون وسطوة الحاكم، لكن مصدرها الأساسي الخوف من عقاب الله عز وجل، فإذا ما سولت نفس الإنسان له فعل الخطأ أو مسه طائف من الشيطان تذكر قدرة الخالق العظيم، وأنه يعلم السر وأخفى وحينئذ يعود إلى رشده ويرجع للحق والصواب.
الانبهار بالغرب
العالم الأزهري د. محمد عبد الغني شامة، أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر، يؤكد أن أخلاق القرآن تبني الإنسان السوي الذي يتصرف برقي ويتعامل بتحضر ويحترم الآخرين ويفي بحقوقهم، والمسلم الملتزم بهذه الأخلاق يتفوق على إنسان الغرب الذي ينظر إليه البعض على أنه الأنموذج للرقي السلوكي.
ويضيف: دائماً ننبهر بما نراه في الغرب من احترام للآخرين وحرص على مساعدتهم ومن نظافة في الشوارع ونظام في كل الأماكن، ومن معاملة حسنة ولياقة وصبر وتسامح وأدب في الرد، وهذا الأسلوب الراقي في التعامل والذي يختفي من حياة كثير من المسلمين هو الذي جاء به القرآن، ونشر دعائمه بين الناس.. ولكن المسلمين للأسف تخلوا عن السلوك الراقي وتركوه للغربيين واستعاضوا عنه بجفوة وغلظة في معاملاتهم واستهتار بالآخرين وعدم التعامل معهم بما يفرضه عليهم قرآنهم من تقدير واحترام.
وهنا يتفق د. شامة مع د. جمعة على أن قيمة احترام الآخر وتقديره إنسانياً واجتماعياً والتي يعلو سقفها في الغرب هي في حقيقة الأمر قيمة إسلامية رسخها القرآن.