في ذكر نماذج من صبر النبي -صلى الله عليه وسلم- على الشدائد والأذى في الدعوة إلى الله، ومن تحمُّله - صلى الله عليه وسلم - للشدائد والأذى في الدعوة إلى الله ما ورد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة، وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يواري إبط بلال»؛ أخرجه أحمد.
وعند البيهقي أن أبا طالب قال له -صلى الله عليه وسلم-: يا بن أخي، إن قومك قد جاءوني وقالوا كذا وكذا، فأبقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أُطيق أنا ولا أنت، فاكفُف عن قومك ما يكرهون من قولك، فظن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن قد بدا لعمه فيه، وأنه خاذله، ومسلمه، وضعف عن القيام معه.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا عم لو وُضعت الشمس في يميني والقمر في يساري، ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه»، ثم استعبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبكى، فلما ولَّى قال له حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا بن أخي، فأقبل عليه، فقال: امضِ لأمرك وافعل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا.
وأخرج البيهقي عن عبد الله بن جعفر، قال: لما مات أبو طالب عرض لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سفيه من سفهاء قريش، فألقى عليه ترابًا، فرجع على بيته فأتته امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي، فجعل يقول: «أي بنية لا تبكين فإن الله مانع أباك»، ويقول: «ما بين ذلك ما نالت قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب ثم شرعوا».
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة قال: لما مات أبو طالب تجهموا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «يا عم، ما أسرع ما وجدت فقدك»، وأخرج الطبراني عن الحارث بن الحارث قلت: لأبي ما هذه الجماعة؟ قال: هؤلاء قوم اجتمعوا على صابئ لهم فنزلنا، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو الناس إلى توحيد الله عز وجل والإيمان به، وهم يردون عليه ويؤذونه حتى إذا انتصف النهار، وانصدع الناس عنه، أقبلت امرأة قد بدا نحرها تحمل قدحًا ومنديلًا، فتناوله منها فشرب وتوضأ، ثم رفع رأسه فقال: «يا بنية، خمري عليك نحرك ولا تخافين على أبيك»، قلنا: من هذه؟ قالوا: هذه زينب بنته رضي الله عنها. قال الهيثمي: رجاله ثقات.
وأخرج البخاري عن عروة بن الزبير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشًا أصابت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما كانت تظهر من عداوته، قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم في الحجر، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفَّه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعاتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا، قال: فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل يمشي حتى استقبل الركن ثم مر بهم طائفًا بالبيت، فلما مر بهم غمزوه - أي أشاروا إليه - ببعض ما يقول، قال: فعرفت ذلك في وجهه.
ثم مضى فلما مر بهم الثانية بمثلها فعرفت ذلك في وجهه ثم مضى، فلما مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال: «أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح»، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كان على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وضاءة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى ليقول: انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشدًا فوالله ما كنت جهولاً.
فانصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك إذا طلع عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوثبوا عليه وثبة رجل واحد فأطافوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم، قال فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «نعم أنا الذي أقول ذلك»، قال: فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكر رضي الله عنه دونه يقول وهو يبكي: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشًا بلغت منه قط.
وأخرج أبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لقد ضربوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرةً حتى غشي عليه، فقام أبو بكر رضي الله عنه فجعل ينادي: ويلكم أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله، فقالوا: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر المجنون.
وفي الحديث الذي أخرجه أبو يعلى عن أسماء بنت أبي بكر أن المشركين لهوا بأبي بكر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقبلوا عليه، قالت: فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئًا من غدائره - أي جدائله إلا جاء معه، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام، وأخرج البزار في مسنده عن محمد بن عقيل عن علي رضي الله عنه أنه خطبهم فقال: يا أيها الناس من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين، فقال: أما أنا ما بارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر رضي الله عنه، إنا جعلنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عريشًا فقلنا: من يكون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لئلا يهوي إليه أحد من المشركين، فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر رضي الله عنه شاهرًا بالسيف على رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يهو إليه أحد إلا أهوى إليه، فهذا أشجع الناس.
قال: ولقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذته قريش، فهذا يحاده وهذا يتلتله ويقولون: أنت جعلت الآلهة إلهًا واحدًا؟! فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويجاهد هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلًا يقول: ربي الله.
ثم رفع عليَّ بردةً كانت عليه فبكى حتى أخضل لحيته، ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم هو؟ فسكت القوم، فقال علي رضي الله عنه: فوالله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه.... الحديث، وفيه يقول أبو محجن الثقفي.
شعرًا:
وسميت صِدِّيقًا وكنت مهاجرًا
سواك يسمى باسمه غير منكر
وبالغار إذا سميت بالغار صاحبًا
وكنت رفيقًا للنبي المطهر
سبقت إلى الإسلام والله شاهدٌ
وكنت جليسًا بالعريش المشهر
اللهم يسِّر لنا سبيل الأعمال الصالحات، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا، وأعلِ معونتك العظمى لنا سندًا واحشرنا إذا توفيتنا مع عبادك الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.