الخطبة الأولى الحمد لله المتفرِّد بوحدانية الألوهية، المتعزِّز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، والعالم بتقلُّبها وأحوالها، المانِّ عليهم بتواتر آلائه، المتفضِّل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي أنشأ الخلق حين
الحمد لله المتفرِّد بوحدانية الألوهية، المتعزِّز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، والعالم بتقلُّبها وأحوالها، المانِّ عليهم بتواتر آلائه، المتفضِّل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي أنشأ الخلق حين أراد بلا مُعِين، وخلق البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمَضَتْ فيهم بقدرته مشيئتُه، ونفذت فيهم بعزته إرادته، وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر السماوات العلى، ومنشئ الأرْضِين والثرى، لا مُعقِّب لحكمه ولا راد لقضائه؛ ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، وأشهد أن محمدًا عبده المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثَهُ بالنور المضيء والأمر المرضي، على حينِ فترةٍ من الرسل، ودُرُوسٍ من السُّبُل، فدمغ به الطغيان، وأكمل به الإيمان، وأظهره على كل الأديان، وقمع به أهل الأوثان، فصلى الله عليه وسلم ما دار في السماء فَلَك، وما سبَّح في الملكوت مَلَك، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فإن الحفاظ على الأرواح -عباد الله - من أعظم مقاصد الشرع، وإن أغلى ما يملك الإنسان هي نفسه روحه التي بين جنبيه؛ لذلك حرَّم الله الاعتداء عليها في جميع الشرائع؛ قال تعالى: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93]، والنفس الإنسانية ليست ملكًا لصاحبها، وليست ملكًا لأحد من الناس، وإنما هي ملك لله وحده، ومن أجل ذلك حرَّم سبحانه الاعتداء عليها حتى من قِبَلِ صاحبها؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]، ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 151]، إن مسؤولية حفــظ الأرواح، وصيانة الدماء مسؤولية الجميع، وإن من أسباب الموت والإصابات التي تحدث للبشر أن جزءًا كبيرًا منها بسبب حوادث السير في الطرقات والشوارع، وحسب إحصائيات الأمم المتحدة، فإن الحوادث المرورية تتسبب بــ1.3 مليون وربع مليون حالة وفاة سنويًّا، و50 مليون إصابة وإعاقة، وخسائر مادية كبيرة جدًّا، ولا شكَّ أنه عدد كبير جدًّا، يفوق عدد الذين يموتون بسبب الكوارث الطبيعية والحروب والحرائق مجتمعة.
أيها المؤمنون، إن مَن يُمعن النظر في أسبابِ كثيرٍ من هذه الحوادث، يجد أنه يكون بسبب فعل متهور، وتصرف طائش، وعمل غير مسؤول، واستهتار واضح من جانب كثير من أصحاب السيارات والمركبات والناقلات؛ ومن ذلك السرعة الزائدة، والتسابق، وقيادة السيارات في حالة الإرهاق والتعب والنعاس، ومن ذلك عدم الصيانة الدورية للمركبات والسيارات، وإصلاح ما تلف أو تعطَّل منها، فالسير الآمن مقصِدٌ من مقاصد الشريعة، وصِفة بارزة من صفات عباد الرحمن: ﴿ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾ [الفرقان: 63]، وأدب رفيع من آداب الإسلام؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ﴾ [الإسراء: 37]، ومن ذلك مخالفة القواعد والقوانين المرورية، ومن ذلك استخدام الهاتف أثناء قيادة السيارة أو المركبة؛ فقد أثبتت الإحصاءات العالمية أن 300 ألف من أصل نحو 2,4 مليون حادثة سير كلَّ عامٍ سببُها استخدام الهاتف أثناء القيادة، وأن أعداد الحوادث بسبب استخدام الهاتف أثناء قيادة السيارة في تزايُدٍ.
إن رعاية حق الطريق وأداء حقه، والالتزام بآدابه، من أوضح ما اعتنى به ديننا الحنيف، فأعطوا الطريق حقَّه؛ راجلًا أو راكبًا، فلا بد من الاطمئنان على حسن القيادة، وفقه الأنظمة وإدراك التعليمات، ودقة الالتزام بها؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 18، 19]، ويُفهَم من القصد هنا التوازن سواء كنت راكبًا أو راجلًا، وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله: ((إياكم والجلوسَ على الطرقات، فقالوا: ما لنا بدٌّ؛ إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فإذا أبيتُم إلا المجالس، فأعْطُوا الطريق حقَّها، قالوا: وما حقُّ الطريق؟ قال: غضُّ البصر، وكف الأذى، وردُّ السلام، وأمرٌ بالمعروف، ونهيٌ عن المنكر))؛ [رواه البخاري]، ولا أبلغ من كف الأذى من أن تحفظ دماء الآخرين وممتلكاتهم، وتقود سيارتك متبعًا طرقَ السلامة للجميع.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:
فهذه - عباد الله - بعض الإرشادات التربوية لكل سائق وراكب ومسافر، يطمئن بها القلب، وتطيب بها النفس، ويحسن بها العمل، ويُكتب بسببها التوفيق والسداد بإذن الله؛ فمن ذلك:
أولًا: التزِمْ تقوى الله بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى؛ لأن التقوى سبب للتيسير والخروج من الشدة؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 4]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: 2].
ثانيًا: توكَّل على الله عندما تركب سيارتك، أو تخرج من بيتك؛ فإنَّ مَن توكَّل على الله كفاه، واعلم أن من حسن التوكل الأخذَ بالأسباب؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يُقال له حينئذٍ: هُدِيتَ وكُفيتَ ووُقيتَ، فتتنحى عنه الشياطين، فيقول له شيطان آخر: كيف برجلٍ هُدِيَ وكُفِيَ ووُقِيَ))؛ [صحيح أبي داود (4942)].
ثالثًا: المحافظة على دعاء ركوب السيارة، وكذلك دعاء السفر؛ ففي ذلك خير عظيم يغفُل عنه أكثر السائقين، فتبدأ بالتسمية، ثم تقول ما ثبت من الأدعية؛ التي منها: ((اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل))؛ [رواه مسلم (1342)]، تأمَّل في هذا الدعاء العظيم، وتساءل: كم مرة حافظت عليه في سفرك؟
رابعًا: الابتعاد عن استعمال هذه النعمة فيما حرم الله؛ قال تعالى: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ﴾ [العنكبوت: 40]، وليكن رفيقَك في السفر والذهاب والإياب القرآنُ الكريم، وجميل القول، والذِّكر الحسن.
خامسًا: المحافظة على صلاة الفجر في جماعة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى الفجر في جماعة، فهو في ذمة الله))؛ [رواه مسلم: (657)].
سادسًا: الحرص على صلاة الضُّحى؛ لأن الله يحفظ من أدَّاها؛ كما قال عز وجل في الحديث القدسي: ((يا بنَ آدمَ، لا تعجز عن أربع ركعات أول النهار، أكْفِك آخره))؛ [رواه أحمد، وصححه الألباني في إرواء الغليل: (465)].
سابعـًا: حافِظْ على سلامة سيارتك، واتبع إرشادات المرور، ولا تستخدم تليفونك وأنت تقود السيارة، فكم من حوادث ضاعت فيها أرواح، وسُفكت فيها دماء، وقُطعت فيها أيدٍ، وبُترت فيها أقدام، كان سببها استخدام التليفون أثناء قيادة السيارة! وليكن شعارك: "لسلامتك أجِّل مكالمتك".
فَلْنَتَّقِ الله ولنشكره على نِعَمِهِ، ولنقم بمسؤولياتنا وواجباتنا، اللهم احفظنا بحفظك الذي لا يُرام، واحرسنا بعينك التي لا تنام، هـــذا، وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال في كتابه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم ألِّف بين قلوبهم، واجمع على الحق كلمتهم، واهدهم سواء السبيل، وردَّنا جميعًا إلى دينك ردًّا جميلًا، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا ووالدينا والمؤمنين عذاب القبر والنار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون؛ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.