قد وقع بين القراء اختلاف كثير في الأصول والحروف، وكان هذا الاختلاف قديماً جداً، حيث كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقرئ الناس بقراءات مختلفة توسعة على الأمة،
قد وقع بين القراء اختلاف كثير في الأصول والحروف، وكان هذا الاختلاف قديماً جداً، حيث كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقرئ الناس بقراءات مختلفة توسعة على الأمة، ورفعاً للحرج عنها.
وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه التحذير من الاختلاف والفرقة في القراءة خاصة، وفي الدين عامة.
فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "سمعت رجلاً قرأ آية سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بخلافها، فأخذت بيده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: ((كلاكما محسن، ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا))[1].
قال ابن تيمية - رحمه الله تعالى -:
"نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع الآخر من الحق، لأنَّ كلا القارئَيْن كان محسناًً فيما قرأه، وعلَّل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا".
ولهذا قال حذيفة لعثمان: أدرك هذه الأمة لا تختلف في الكتاب كما اختلف فيه الأمم قبلهم، لما رأى أهل الشام والعراق يختلفون في حروف القرآن الاختلاف الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم.
فأفاد ذلك شيئين:
أحدهما: تحريم الاختلاف في مثل هذا.
والثاني: الاعتبار بمن كان قبلنا، والحذر من مشابهتهم.
واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة الذي يُورِّث الأهواء تجده من هذا الضرب، وهو أن يكون كل واحد من المختلفين مصيباً فيما أثبته أو في بعضه، مخطئاً في نفي ما عليه الآخر، كما أن القارئين كل منهما كان مصيباً في القراءة بالحرف الذي علمه، مخطئاً في نفي حرف غيره، فإنَّ أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب، لا في الإثبات، لأن إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه[2].
وقد كان التابعون يلحظون هذه المعاني، فكانوا يتوقون أن ينكروا قراءة لم يعرفوها، خوفاً من أن تكون ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضلوا بإنكارها.
فعن شعيب بن الحبحاب قال: كان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل: ليس كما يقرأ، وإنما يقول: أما أنا فأقرأ كذا وكذا، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: أرى صاحبك قد سمع: أن من كفر بحرف منه فقد كفر به كله[3].
وقد بين الإمام عاصم - رحمه الله - كيفية التعامل في مثل هذه الأحوال، والمنهج الذي ينبغي للمتعلم أن يسلكه في اختلاف الحروف، ولم يكن منهجه بعيداً عن منهج التابعين.
قال المصنف: سأله شخص يعني عاصماً عن حرف من كتاب الله فيه وجهان، فأخبره بهما، فقال له الرجل: يا أبا عبد الرحمن أيهما أحب إليك؟ فغضب، فقال الرجل: ما الذي أغضبك؟ قال: قولك أحب إليك، أنا أحب هذا وهذا، قال: فكيف أقول؟، قال: قل بأيهما تأخذ أ.هـ.
وما يقال عن الاختلاف في القراءة يقال عن الاختلاف في التفسير، فقد نُهيت الأمة عن الاختلاف في الكتاب، بمعنى الاختلاف في تأويله، والخروج عن سبيل المؤمنين في ذلك، وكان الاختلاف في التأويل سبباً لاقتتال المسلمين، ولظهور الفرق الضالة كفرقة الخوارج والروافض.
قال ابن تيمية: ولهذا نُهيت الأمة أن تضرب آيات الله بعضها ببعض؛ لأن مضمون الضرب: الإيمان بإحدى الآيتين والكفر بالأخرى، إذا اعتقد أن بينهما تضاداً إذ الضدان لا يجتمعان.
ومثل ذلك: ما رواه مسلم عن عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو قال: هجَّرت إلى رسول الله يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرف في وجهه الغضب فقال: ((إنما أهلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب))[4].
فعلَّل غضبه بأن الاختلاف في الكتاب سبب هلاك من كان قبلنا، وذلك يوجب مجانبة طريقهم في هذا عيناً[5].
ولكن الاختلاف حقيقة واقعة في القراءة والتفسير، وليس كل هذا الاختلاف داخل في الاختلاف المذموم الذي مقته النبي - صلى الله عليه وسلم - وحذر أمته منه، ذلك لأن بعض صور الاختلاف في القراءة والتفسير ليست اختلافاً على الحقيقة، وإنما يعرف ذلك بمعرفة أنواع الاختلاف.
فقد ذكر أهل العلم أنَّ الاختلاف على نوعين: اختلاف تنوع في العبارة، واختلاف تضاد.
فالاختلاف الحقيقي هو اختلاف التضاد، فهو المذموم في الشريعة، وأما اختلاف التنوع ففيه بعض الفوائد، من حيث إن تنوع الأساليب والأمثلة يقرب الحقائق، ويسهل العلوم.
واختلاف القراء في القراءة في الأصول أو في الحروف من هذا القبيل، فهو حق محض، ومنكره منكر للحق، وإن لم يصله أو يثبت لديه، فالواجب أن يقول كما قال أبو العالية - رحمه الله تعالى -.
ولذلك ما نجده في بعض تراجم القراء من أن بعض العلماء والنحويين أنكروا شيئاً من القراءات فهو من الإنكار الذي ذمه النبي - صلى الله عليه وسلم، وغضب لما شاهده بين بعض أصحابه، والواجب أن لا يلتفت إليه، ولا يعول عليه، وتجب مجانبته والبعد عنه.
وسوف يلحظ القارئ في تضاعيف هذا الكتاب نقولات عن بعض القراء يخطئ بعضهم بعضاً، وينكر بعضهم على بعض، فضلاً عن النحويين وعلماء اللغة، فالواجب تجاه هذا كله أن نفعل كما علمّنا النبي - صلى الله عليه وسلم، فلا ننكر قراءة لأجل أخرى، ونؤمن بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم، وصحت القراءة به، فإن هذا الخلاف والإنكار هو بعينه ما وقع زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين القارئين اللذين صوب قراءتهما، ونهاهما عن الاختلاف.
قال أبو عبيد: في حديث النبي - عليه السلام - أنه قال: ((لا تُماروا في القرآن فإنّ مِراء فيه كفرٌ))[6] ، وجه الحديث عندنا ليس على الاختلاف في التأويل، ولكنه عندنا على الاختلاف في اللفظ، على أن يقرأ الرجل القراءة على حرف، فيقول له الآخر: ليس هكذا، ولكنه كذا على خلافه، وقد أنزلهما الله جميعا، يُعلم ذلك في حديث النبي - عليه السلام - أنه قال: ((إن القرآن نزل على سبعة أحرف، كل حرف منها كاف شاف)).
ومنه حديث عبد الله بن مسعود: "إياكم والاختلاف والتنطع، فإنما هو كقول أحدكم هَلُمَّ وتعال"[7].
فإذا جَحَدَ هذان الرجلان كل واحد منهما ما قرأ صاحبه لم يُؤمَن أن يكون ذلك قد أخْرَجَه إلى الكفر لهذا المعنى[8].
الثاني: أسباب الاختلاف بين القراء:
وقد بيَّن الإمام مكي بن أبي طالب العلة التي من أجلها كثر الاختلاف بين القراء في الأصول والفروع، فقال: إنَّ كل واحد من الأئمة قرأ على جماعة بقراءات مختلفة، فنقل ذلك على ما قرأ، فكانوا في بُرهة من أعمارهم يُقرئون الناس بما قرءوا، فمن قرأ عليهم بأي حرف كان لم يردوه عنه، إذا كان ذلك مما قرؤوا به على أئمتهم، ألا ترى نافعاً قال: "قرأت على سبعين من التابعين، فما اتفق عليه اثنان أخذته وما شذ فيه واحد تركته".
يريد - والله أعلم - مما خالف المصحف، فكان من قرأ عليه بما اتفق فيه اثنان من أئمته لم ينكر عليه ذلك.
وقد روي عنه أنه كان يقرأ الناس بكل ما قرأ به حتى يقال له: نريد أن نقرأ عليك باختيارك مما رويت، وهذا قالون ربيبه وأخص الناس به، وورش أشهر الناس في المتحملين إليه اختلفا في أكثر من ثلاثة آلاف حرف من قطع وهمز وتخفيف وإدغام وشبهه، ولم يوافق أحد من الرواة عن نافع رواية ورش عنه ولا نقلها أحد عن نافع غير ورش، وإنما ذلك لأنَّ ورشاً قرأ عليه بما تعلم في بلده فوافق ذلك رواية قرأها نافع عن بعض أئمته، فتركه على ذلك، وكذلك ما قرأ عليه قالون غيره.
وكذلك الجواب عن اختلاف الرواة عن جميع القراء، وقد روي عن غير نافع أنه كان لا يرد على أحد مما يقرأ عليه إذا وافق ما قرأ به على بعض أئمته، فإن قيل له أقرئنا بما اخترته من روايتك أقرأ بذلك[9].
وقال في موضع آخر: إن الصحابة كان قد تعارف بينهم من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الإنكار على من خالفت قراءته قراءة الآخر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((انزل القرآن على سبعة أحرف فاقرؤوا بما شئتم))، ولقوله: ((نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف))، ولإنكاره صلى الله عليه وسلم على من تمارى في القرآن، والأحاديث كثيرة[10]، فكان كل واحد يقرأ كما عُلِّم، وإن خالف قراءة صاحبه..
ولما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج جماعة من الصحابة في أيام أبي بكر وعمر إلى ما افتتح من الأمصار ليعلموا الناس القرآن والدين، فعلم كل واحد منهم أهل مصره على ما كان يقرأ على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم، فاختلفت قراءة الأمصار على نحو ما اختلفت قراءة الصحابة الذين علموهم.
فلما كتب عثمان المصاحف ووجهها إلى الأمصار وحملهم على ما فيها، وأمرهم بترك ما خالفها، قرأ أهل كل مصر مصحفهم الذي وجه إليهم على ما كانوا يقرءون قبل وصول المصحف إليهم، مما يوافق خط المصحف الذي وجه إليهم، وتركوا من قراءتهم التي كانوا عليها مما يخالف خط المصحف، فاختلفت قراءة أهل الأمصار لذلك بما لا يخالف الخط، وسقط من قراءتهم كلهم ما يخالف الخط، حتى وصل النقل إلى هؤلاء السبعة على ذلك فاختلفوا فيما نقلوا على حسب اختلاف أهل الأمصار..
وقد قرأ الكسائي على حمزة وعنه أخذ القراءة وهو يخالفه في نحو ثلاثمائة حرف، لأنه قرأ على غيره فاختار من قراءة حمزة ومن قراءة غيره قراءة، وترك منها كثيراً.
وكذلك أبو عمرو قرأ على ابن كثير، وهو يخالفه في أكثر من ثلاثة آلاف حرف لأنه قرأ على غيره، فاختار من قراءته ومن قراءة غيره، فهذا سبب الاختلاف[11].
وقد كان للمصنف ابن وهبان - رحمه الله - مشاركة في هذا الباب، فتكلم على سبب الخلاف بين القراء في قضيتين عامة وخاصة.
الأولى: الخلاف العام بين قراء الصحابة والتابعين، وذلك في شرح حديث الأحرف السبعة.
الثانية: الخلاف الخاص الواقع بين حفص وأبي بكر بن عياش راويي عاصم -، وذلك في آخر فصل من ترجمة عاصم - رحمه الله -.
[1] رواه أحمد 1/412، والبخاري ح2410.
[2] اقتضاء الصراط المستقيم 1/123-125.
[3] رواه ابن جرير 1/46 في تفسيره، وابن عساكر في تاريخ دمشق 18/179.
[4] صحيح مسلم ح2666.
[5] اقتضاء الصراط المستقيم 1/125.
[6] رواه ابن جرير في التفسير 1/43 بإسناد صحيح.
[7] رواه أبو عبيد بإسناد صحيح في فضائل القرآن ص361، وكذلك الداني في الأحرف السبعة ص22.
[8] غريب الحديث 2/11-12.
[9] الإبانة ص61-62.
[10] مثل حديث أبي جهيم الأنصاري قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((إن القرآن أنزل على سبعة أحرف فلا تماروا في القرآن
فإن المراء فيه كفر))،
رواه ابن جرير في التفسير 1/43 بإسناد صحيح.
[11] الإبانة ص36-38.
جزااااك الله خيرا.. على هذا المجهود الرائــع..
بــارك الله فيــك على الموضـــوع ..
الى الأمـــام..
لاتبـخل عليــنا بجـــديــدك..
و تقـبل مروريـ..
تحياتي