لم تكن هجرتهم فرارًا من أي ضغط نفسي، أو حالة يأس واستسلام
أو ظنًّا بتمكين الباطل، وضعف الحق أو شكًّا بتأخر النصر!
إنما هي حلقة من مسلسل الحياة في سبيل الله كما الرغبة في الموت في سبيله عزّ وجلّ.
فكانت الهجرة لازمة من مكان لا عُدة فيه للنكاية بالظالمين لمكان فيه الجهاد حتى تصبح كلمة الله هي العليا.
الهجرة: بذلٌ وتضحية، وتركٌ للدنيا كلها -لله ولدينه-، ولاءٌ لله ورسوله والمؤمنين، براءة ٌمن الكفار
والمشركين والمنافقين والمحاربين لله ورسوله، والتحامٌ مع الفئة المؤمنة المجاهدة.
هاجر الجميع: عائلات وشباب وكبار؛ فعائلة كأبي سلمة وأم سلمة لاقوا تفريقاً وخطفاً بتضحية
وصبر ثم تيسير عام ولمٌ للشمل. وشاب كصهيب الرومي: ترك ماله كله ليلحق بالمؤمنين فبشره الحبيب
صلى الله عليه وسلم ونزلت فيه {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ} [البقرة من الآية:207]
أما ضمرة بن جندب فهاجر وتوفي وهو في طريقه للنبي فأنزل الله تعالى فيه
{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّـهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ ۗ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [ النساء:100].
ورغم أن المهاجرين أفنوا ثلاثة عشر عامًا في حمل الدعوة ونصرتها وتحمل العذاب والأذى وكل الأضرار في سبيلها
لحق بهم الأنصار في نفس المنزلة بعد ثلاثة عشر عامًا، بالدور الصادق الذي بذلوه في احتضان الدعوة والبذل في سبيلها.
فقد "قال عُمَرُ لأسماءَ سبَقْناكم بالهِجرةِ قالت واللهِ لقد سبَقْتُمونا بالهِجرةِ كنَّا عندَ العُراةِ الحُفاةِ
وكُنْتُم عندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعلِّمُ جاهلَكم وعالِمَكم ويأمُرُكم بمعالي الأخلاقِ وقالت لَآتِيَنَّ
رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأُخبِرُه فقال للنَّاسِ هِجرةٌ ولكم هِجرتانِ" (المعجم الأوسط[6/231]).
مما يؤكد أن العبرة بالصدق وإحسان العمل. هي بارقة أمل؛ إذ يمكننا أن نحّصل أجر الهجرة بالبذل
والجهاد والصبر والالتزام والتقوى. وكذلك فليست العبرة بمن سبق إنما بمن صدق
فهيا ننافس صحابة رسول الله الذين سبقوا ولنجتهد أن نكون مع من صدقوا. هاجر إلى ربك واصدق
واهجر ما نهاك عنه «إنَّ المُهاجرَ مَن هجرَ ما نَهَى اللَّهُ عنهُ» (مسند أحمد [11/129]).