الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم؛ أما بعد: فقد كثُرَ الكلام اليوم عن حادثة غَدِير خُمٍّ في الإعلام، وأن فيه تنصيبًا للخليفة أو للإمام بعد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم؛ أما بعد:
فقد كثُرَ الكلام اليوم عن حادثة غَدِير خُمٍّ في الإعلام، وأن فيه تنصيبًا للخليفة أو للإمام بعد النبي عليه الصلاة والسلام، فما حقيقة الأمر؟ وما سبب الحادثة؟
غَدِير خُمٍّ مكانُ ماء بين مكة والمدينة، قريب من الجُحْفَةِ، يبعُد عن مكة تقريبًا (150 كم)، نزل به النبي صلى الله عليه وسلم في رجوعه من حجة الوداع، وخطب فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطبةً عظيمة بيَّن فيها كثيرًا من الأمور؛ ومن جملتها: بيَّن فيها فضل سيدنا عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه وقُرْبَه منه، وذلك لمَّا شكاه بعض من كان معه من الجند إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
ولا أريد أن أُطيل الكلام في تخريج روايات الحديث المختلفة، وأقوال العلماء فيه، فهذا مدوَّنٌ في كتب السنة، ومن أراد الاستزادة فليراجعها، والحديث أصله صحيح، رُوِيَ في بعض كتب السنن ومصادر الحديث المعتبرة، ولكن زاد عليه أهل الأهواء والأغراض ما ليس منه؛ ليُدلِّسوا على الناس، ويطعنوا في الصحابة الكرام، بزعمهم أنهم كفروا؛ لأنهم عصَوا وخالفوا، ولم ينفذوا وصية النبي عليه الصلاة والسلام في تنصيب الخليفة والإمام الذي نصَّ عليه من بعده.
ويجب أن نبيِّنَ ونوضح سبب هذه الحادثة بملابساتها، ولماذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الكلام لأهل المدينة خاصة، ومن جاورها، بعد رجوعه من الحج، ولم يقُل ذلك لأهل الحج كلهم من أهل المدينة وغيرهم من الأمصار في يوم عرفة قبل رجوعهم لبلدانهم، إذا كان هناك تبليغٌ واجب من الله تعالى في الخلافة؛ لأن معرفة سبب ورود الحديث يُعِين على فهمه، ويُبيِّن مراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحديث، كمعرفة سبب النزول للآية يُعين على فهمها، ويبين مراد الله تعالى فيها؛ فإن العلم بالسبب يُورِث العلم بالمسبَّب.
وقد بيَّن العلماء جزاهم الله خيرًا سببَ ذلك، وإنما خص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل المدينة بالحديث دون غيرهم عن فضائل سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه في هذه المناسبة؛ لسببين ذُكِرَا في الأحاديث المتنوعة التي رَوَتِ الحادثة:
السبب الأول: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل حَجِّه، كان قد أرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى اليمن في معركة، فانتصر فيها خالد بن الوليد وغنِم غنائمَ، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبره بذلك، ويطلب إرسال من يخمس تلك الغنائم، فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه لتلك المهمة، ثم أمره أن يدركه في الحج، وقسم سيدنا علي رضي الله عنه تلك الغنائمَ كما أمر الله سبحانه؛ أربعة أخماس للمجاهدين، وخُمُسًا لله والرسول، وذوي القربى واليتامى، والمساكين وابن السبيل، فأخذ سيدنا علي خمس ذوي القربى، وهو سيد ذوي القربى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأصبح عليُّ بن أبي طالب ورأسه يقطُرُ ماء من جارية وَطِئها، اصطفاها من الخُمُس، فغضِب بعض الصحابة كبُريدة بن الحصين رضي الله عنه، كيف يفعل ذلك؟ فاشتكى بريدة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقصَّ عليه ما فعل سيدنا عليٌّ، فلم يردَّ عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكرر بريدة الشكوى وما حصل من عليٍّ، فلما كانت الثالثة قال: يا رسول الله، عليٌّ فعل كذا وكذا، فقال النبي: ((يا بريدةُ، أتُبغِض عليًّا؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال: لا تفعل؛ فإن له في الخُمُس أكثر من ذلك))، يقول بريدة: فأحببتُه بعد ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا تُبْغِضْهُ)).
وفي رواية فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا بريدة، ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله، فقال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه))، وفي رواية: ((اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه)).
فأصلُ الواقعة أنه كانت هناك مشكلة بين بريدة وسيدنا علي رضي الله عنهما، ويبدو أن بريدة أشاع الخبر، وتعاطف معه بعض الناس، فعالجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحسم الأمر بالحكمة والبيان الصريح بمكانة سيدنا علي رضي الله عنه، وأحقيته في الخمس؛ كونه ابن عمه، وزوج ابنته، ومن سادات أهل بيته.
السبب الثاني: أن عليًّا رضي الله عنه لما خرج من اليمن إلى مكة حاجًّا؛ ليدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع، أخذ معه نُوقًا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ يعني أنه ساق الهَدْيَ معه، فلما كان في الطريق أمر أصحابه ألَّا يتقدموا عليه، ونهاهم أن يركبوا الإبل، وأن يلبسوا بعض الثياب التي من الغنائم، فلم يلتزموا بتلك التوجيهات والأوامر، فغضِب من تصرفاتهم، ونَهَرهم، وأخذهم بالحزم، وقال لمن خلَّفه عليهم: ويلك، ما هذا؟ قال: كسوتُ القوم ليتجمَّلوا به، إذا قدِموا في الناس، قال: ويلك، انزِع قبل أن تنتهي به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فانتزع الحُلَلَ من الناس، فردَّها في البزِّ، قال: وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم... فتضايقوا من هذه المعاملة، واشتكوا عليًّا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسيدنا علي رضي الله عنه لم يتجاوز في تعامله، ولكنه استخدم حقه كأمير للجيش، وطاعة من أمَّره رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم واجبة.
فلما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم راجعًا من حجته، توقَّف في مكان يُقال له: "غَدِير خُمٍّ"، على بعد نحو مائة وخمسين كيلومترًا من المدينة للراحة والاستجمام، وصلى بالناس ثم خطب فيهم، وكان مما قاله عليه الصلاة والسلام: ((من كنت مولاه فعليٌّ مولاه)).
والحاصل أنه لا خلاف بين المسلمين في فضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومكانته، ووجوب موالاته ومحبته واتباعه، وأنه رابع الخلفاء الراشدين المهديين، الذين أمَرَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم باتباعهم والتمسك بسُنَنِهم، وأنه من سادات الصحابة وأهل البيت، وحبهم من الدين والإيمان، وبُغْضُهم نفاقٌ.
فليس في الأمر إلا الوصية باتباع كتاب الله تعالى وحثه على التمسك به، والوصية بمحبة أهل البيت الأطهار وموالاتهم، والترضي عنهم، وهذا أمر قد تقدمت الوصية به في حجة الوداع قبل ذلك، وليس فيه أي إشارة للوصية أو الخلافة أو الإمامة من بعده عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا لم يَحْتَجَّ به سيدنا عليٌّ رضي الله عنه على خصومه، ولم يذكِّرهم به ليلزمهم الحجة؛ لعِلْمِهِ رضي الله عنه أن ليس فيه ما يزعم بعضهم من الولاية والخلافة.
وإن معنى المولى في هذا الحديث في لغة القرآن الكريم: الحاكم والخليفة، لا يصح أبدًا، ولم يَرِد في العربية هذا المعنى؛ لأن المولى له معانٍ كثيرة في القرآن الكريم واللغة؛ منها: الرب والمالك، والسيد والمنعم، والمعتق والناصر، والمحب والتابع، والجار وابن العم، والحليف والعقيد، والصهر والعبد، والمعتق والمنعم عليه؛ كما في النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير.
والمقصود بالموالاة هنا في الحديث: المودة والمحبة والمؤازرة، وهي ضد المعاداة؛ قال تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [التوبة: 71].
والولي بمعنى الناصر والحليف هو أكثر ما جاء في القرآن الكريم؛ من ذلك قوله سبحانه: ﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 30]، ومن هذا القبيل قوله عز وجل: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [البقرة: 257]؛ أي: إن الله سبحانه نصير عباده المؤمنين وظهيرهم، يتولاهم بعونه وتوفيقه.
ومنه أيضًا قوله سبحانه: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ [المائدة: 55]، والمعنى كما في تفسير الطبري: ليس لكم - أيها المؤمنون - ناصر إلا الله ورسوله، والمؤمنون الذين صفتهم ما ذكر تعالى في الآية، فأما اليهود والنصارى الذين أمركم الله أن تَبْرَؤوا من ولايتهم، ونهاكم أن تتخذوا منهم أولياء، فليسوا لكم أولياء ولا نُصَراء، بل بعضهم أولياء بعض.
فهذه هي حادثة غَدِير خُمٍّ باختصار، وسبب وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه، وأنه لم يفهم منه سيدنا عليٌّ رضي الله عنه، وكذلك لم يفهم أحد من الصحابة الكرام، ولا أحد أئمة أهل البيت الأطهار أن فيه الوصية بخلافة أو ولاية أو إمامة بعده عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا بايعوا جميعًا الخليفة أبا بكر الصديق رضي الله عنه في يوم السقيفة، دون أي اعتراض صحيح يُذكَر، والله تعالى أعلم.