الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعيـن، أما بعد: فقد مرت مريم عليها السلام بأشد موقف في حياتها، وهو ولادتها بعيسى عليه السلام دون زوج، وتمنَّت
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعيـن، أما بعد:
فقد مرت مريم عليها السلام بأشد موقف في حياتها، وهو ولادتها بعيسى عليه السلام دون زوج، وتمنَّت لو أنها ماتت قبل هذا وكانت نسيًا منسيًّا، ولا يتمنى أحد الموت وأن يكون نسيًا منسيًّا إلا من شدة ما يمر به.
وهي في شدة الهم ومعاناة الولادة، والتفكير في أمر قومها وما سيقولونه لها جاءها الأمر من السماء ﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 26].
عيشي حياتك على طبيعتها في الأكل والشرب وقري عينًا، واستقبلي هذا الطفل بالفرح والسرور، وأما ما يهمك في المستقبل من حديث الناس فإن الله سيتكفل به، فلا تتكلمي، وقد أنطق الله لها عيسى في المهد ليكون هو المتحدث عنها أمام الناس في هذه القضية؛ ليعلموا أن الأمر رباني.
وهذه رسالة لجميع المؤمنين بأن يتيقنوا أن الله سيُذهب الهم ويفرج الكرب، فليعيشوا حياتهم باطمئنان، وليأكلوا وليشربوا وليقروا عينًا، فإن الحزن والقلق لن يُغيِّر الأقدار، بل سيثبط النفس، ويوهنها، ويجرها إلى وديان الإحباط والقنوط.
وقد مرَّ أنبياء الله بمواقفَ شديدة جدًّا، فكانوا موقنين بأن الله سيهديهم، ويحقق لهم أهدافهم.
يقول خبَّابُ بن الأرتِّ: "شكَوْنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصرُ لنا، ألا تدعو الله لنا، قال: «كان الرجلُ فيمن قبلكم يُحفَرُ له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار، فيُوضَع على رأسِه، فيُشقُّ باثنتين، وما يصدُّه ذلك عن دينِه، ويُمشَط بأمشاطِ الحديد ما دون لحمِه من عَظْم أو عصَب، وما يصدُّه ذلك عن دينِه، والله ليُتمنَّ هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللهَ أو الذئبَ على غنمِه، ولكنكم تستعجلون».
وفي توسُّد النبي صلى الله عليه وسلم البردة في ظل الكعبة في مثل هذه الظروف دلالة على الاطمئنان التام، وكلامه مملوء باليقين والثقة بأن الله سيتمُّ الأمر.
ولما بلغ موسى عليه السلام البحر هو وقومه واقترب منهم فرعون وقومه، ﴿ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61]، فأجابهم بجواب الواثق بالله فقال: ﴿ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62].
وعند هذا اليقين تأتي المعجزات التي لا تخطر على بال، فقد قال الله لموسى بعد قوله هذا: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴾ [الشعراء: 63 - 66].
فبكلمات صادقة خرجت من قلب موقِن قلبت خوفهم فرحًا بنجاتهم وهلاك الظالمين، والله لا يخيب من توجَّه إليه بصدق.
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار مع صاحبه أبي بكر رضي الله عنه وقال أبو بكر: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال له صلى الله عليه وسلم: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما».
﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40]، والسكينة من أكبر النعم التي يرزقها الشخص الموقن المتوكِّل على الله.
ودون السكينة فلن يهنأ الإنسان في عيش، ولن يجد طعمًا للحياة.
وأما تأييد الله أولياءه بالجند التي لا ترى، فهذا ما لا يحيطه الوصف، فمَنْ كان يظن أن معاناة يوسف عليه السلام ستنتهي بحلم يرسله الله للملك فتتغير حياة يوسف من سجين إلى عزيز مصر، ويُمكِّن له في الأرض ﴿ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ﴾ [يوسف: 56]؟!
فعلى المؤمن أن يملأ قلبه بالثقة بالله، ويوقن أن الله يدبر الأمر، وأن الخير بيديه، والشر ليس إليه، وأن يقوم بما أمره الله، وأن يسلم لأقدار الله، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.