إن اللهَ تعالى جعل لكلَِّ شيء سببًا، وقيامُ الليل له أسبابٌ تعين عليه؛ فمن أراد أن يقومَ فلا بُدَّ أن يأخذَ بالأسباب التي تعينه وتُمَكِّنُه من القيام بعون الله، وسأذكرُ
إن اللهَ تعالى جعل لكلَِّ شيء سببًا، وقيامُ الليل له أسبابٌ تعين عليه؛ فمن أراد أن يقومَ فلا بُدَّ أن يأخذَ بالأسباب التي تعينه وتُمَكِّنُه من القيام بعون الله، وسأذكرُ في هذه الرسالة جملةً من الأسبابِ بالدليلِ والبرهانِ قدرَ ما أستطيعُ، وأسألُ اللهَ أن ينفعَ بها من قرأها . الاستعانةُ بالله تعالى : كما أنَّ جميعَ الأمور من عبادات وأخلاق وأمور معاشٍ تتطلَّبُ الاستعانةَ بالله - سبحانه، فإنَّ قيامَ اللَّيل من ألزمها؛ وذلك أنَّ صاحبَه ومريدَه يهمُّ به وهو مستيقظٌ، فإذا نامَ تمكَّنَ الشَّيطانُ منه وعقد على قافيته بثلاثِ عقد، فإذا كان العبدُ مستعينًا بالله كان اللهُ له عونًا على عَدَوِّه إبليس؛ فلا يجعلُ له سلطانًا عليه ما دام على ربِّه متوكِّلاً وبه مستعينًا؛ قال تعالى : "إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" [النحل: 99] .
وإن العبدَ لَيَسْتعينُ بالله عدَّةَ مرات في اليوم والليلة حينما يقرأُ الفاتحة، ويقولَ : "إيَّاك نعبدُ وإياك نستعينُ"؛ فعليك أن تستحضرَ طلبَ الاستعانة حين تقرأ هذه الآية؛ ولا سيَّما في أولِ القيام؛ فإنَّه شاقٌّ إلا على من استعان بالله، وليتذكر قوله تعالى وهو يجاهدُ نفسَه على القيام : "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" [العنكبوت: 69] . تصحيحُ العقيدة والنَّظرُ في سلامتها؛ فعلى مريد القيام أن يَنْظرَ في مدى إيمانه بالله سبحانه، وينظر في هذا الإيمان؛ هل اكتملت جوانبُه وأركانُه حقًّا حقًّا وصدقًا صدقًا؛ فلا يكون الأمرُ مجردَ كلام وتلفُّظ باللسان؛ وإنَّما يَقرُّ في القلب، فيكون بالله مُعلَّقًا قلبُه؛ يعيش دنياه لآخرتِه، يؤمنُ برسل الله ويصدِّقُ ما جاؤوا به؛ فلا ينكر أحدًا منهم أو آية من آياتهم ومعجزة من معجزاتهم، ويؤمنُ بمحمد صلى الله عليه وسلم ويحبُّه ويحبُّ ما جاء به؛ يحبُّه اتِّباعًا لا هَوسًا شعرًا ونثرًا وعِشقًا!! فإنَّ أصحابَ المحبَّة الصَّادقة هم أهلُ العمل والمتابعة والاقتداء، وليسوا أهلَ البدع والمخالفة والأهواء .
وينظر في إيمانه بالملائكة؛ هل يستحضرُ رقابتهم له؟! ويتذكَّر أنَّ عليه مَلَكين مكلَّفَين به يكتبان حسناته وسيئاته؛ فلا ينطق بغير رضا الله وذكره، وإذا نطق بغير ذلك تَذَكَّرَ واستغفر، ويؤمن بالملائكة جميعًا وخلقهم وصفتهم كما أخبر اللهُ عنهم، ولا يُنكر ممَّا دلَّ عليه الشَّرْعُ شيئًا؛ فمثلاً يؤمنُ بأنَّ الذي يتوفَّى الأنفسَ بإذن ربه الملك، ملكُ الموت الموكَّلُ بها، فإذا وضع جنبَه واستشعر أنَّ الملكَ يقبض روحَه وقد لا ترجع واستحضر كم من عبد نام فلم يستيقظ، وَجَلَ قلبُه وارتعدت أطرافُه، ووجد همًّا يبعثه على الاهتمام بطاعة ربِّه والمسارعة للعمل له والقيام لملاقاته ومناجاته ورجاء ثوابه .
يؤمنُ باليوم الآخر فيرجو الجنةَ ويَحْذَر الآخرةَ وعقابها، وهذا الإيمانُ من أعظم الدوافع على قيام الليل؛ قال تعالى : "أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الليْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ" [الزمر: 9] . يؤمنُ بالقدر خيره وشره؛ فلا يَجْزَع لما فاته ولا ما أصابه، ولا يَسُبُّ قَدَرَ الله، ولا يعترضُ عليه أو يشكوه؛ فإنَّما يسبُّ ربَّه ويشكو ربَّه؛ وهل قَدَّر عليه ذلك إلا الله ؟!
وكلُّ هذا الإيمان يكون نابعًا من إيمانه بكتاب ربِّه وما جاء فيه من الخبر والأمر؛ فإذا قام وقرأ القرآنَ وكان على يقين وإيمان بأنَّه كلامُ ربِّه واستحضر أن الله يحادثُه ويُكلِّمُه خشعَ له قلبُه واقْشَعَرَّ له جلدُه؛ قال تعالى : "اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ" [الزُّمر: 23] . محبَّةُ الله والتَّعَلُّقُ به سبحانَه؛ لأن مَنْ أَحَبَّ أحدًا حرص على لقائه وحديثه والاستماع إليه؛ فلا يشكر إلا له، ولا يأنسُ إلا بحديثه، فإذا تحدَّثَ غيرُه لم يزدْ لحديث ربَّه إلَّا حبًّا وتعلُّقًا وشوقًا .
بالله عليك يا أخي، أليس لك أحدٌ تحبُّه وتحبُّ مجلسَه وحديثَه تجده قريبًا إلى قلبك.. سلْ نفسَك إلى أيَّ مدى تحترم موعدَه لك ؟! هَبْ أنَّه غاب عنك ووعدَك لقاءً بعدَ حين؛ ألستَ تنتظرُ حين موعده وتذكره وتهيئ نفسَك لاستقباله ؟! لو طلبَ منك أحدٌ سواه أن تأتيه في هذا الوقت اعتذرتَ إليه ولم تُحب دعوته.. بل قد تُحرَّض أهلَك أن يذكَّروك أو يوقِظوك إن كان وقتَ نوم؛ لحرصك على أن لا تُفَوِّتَ لحظةَ لقائه.. سلْ نفسَك يا أخي.. من هذا الذي تحرصُ عليه هذا الحرصَ ؟! أهو رزَقَك ؟! أهو يشفيك ؟! أهو يؤمَّنُك من فزعِك ؟! أهو سببُ وجودك وخالقُك ؟! أهو أبدعَكَ وسوَّاك وعَدَلَكَ وفي أحسن صورة رَكَّبَك ؟ أهو وعدَك أنَّ ما سألتَه أعطاك ؟! لا والله لا يفعلُ ذلك لك، وما له من ذلك من شيء؛ بل هو مخلوقٌ مثلُك يحتاج إلى ما تحتاجُ إليه .
بل إنْ وعَدَكَ اللَّيلَ فكَّرْتَ في لقائه النَّهارَ، وإن وعدَك النَّهارَ فَكَّرتَ في لقائه الليلَ.. هذا إذا كان لك حبيبًا وقريبًا، ويزيدُ حرصُك وينقصُ بحسب محبَّتكَ له وقُربه منك .
وعلى هذا فإنَّ من يحبُّ اللهَ ويحرصُ على لقائه وعلى مقدار ما يُكِنُّ العبدُ من محبة لربَّه، وما يُقِرُّ في قلبه من حبَّ الله يكونُ حبُّه للقائه وشوقُه لموعد نزوله وأنسُه بحديثه .
وكلُّ واحد يختلفُ عن الآخر في حرصه على لقاءِ الله؛ فمنهم من يقومُ له ثُلُثَ الليل، ومنهم من يقومُ رُبعَه، ومنهم من يقومُ ساعةً، ومنهم من يقومُ نصفَها وربعَها وعشرَها، وهؤلاء يختلفون في محبَّتهم لله كلٌّ بحسبِ عمله؛ وكيف يُثبتُ العبدُ محبَّتَه لله ويَدَّعي ذلك وهو عن لقائه غافلٌ ولمناجاته قال، ولكلامه هاجرٌ ؟!
فالكلُّ عند الادَّعاء يدَّعي محبةَ الله؛ ولكن عند الجزاء لا يُقرُّ اللهُ لمدَّعي محبَّته؛ وإنما يقرُّ لأهل طاعته ورضاه، جعلنا اللهُ منهم .
وسأضربُ لك أخي مثالاً يُقَرِّبُ ما أقول ويُثْبته :
سافرتَ إلى بلد غيرِ بلدك، ولك في بلدك أهلٌ وأقاربٌ وأصدقاءُ، وأخبرتَهم بيوم عودتك وأنَّك تنتظر منهم لقياهم لك، فلمَّا قدمتَ في موعدك وجدتَ أحدَهم ينتظرُك عندَ الطائرة، بذَلَ كلَّ ما يستطيعُ حتى سُمحَ له بالدُّخول لذلك المكان، ووجدتَ آخرَ ينتظرك في صالة الانتظار؛ قدم قبلَ موعدك بساعة، وآخرُ وَصَلَ للتَّوِّ، ورابعٌ انتظرك في بيتك، وخامسٌ جاءك بعدَ وصولك، وسادسٌ جاءك بعدَ مضيَّ يوم من وصولك.. وسابعٌ لقيته في السوق فسلَّم عليك وحَيَّاك وادَّعى الشوقَ إليك والانتظار لقدومك .
ألستَ تُصَنَّفُ مَحَبَّةَ هؤلاء بحسب إقدامهم عليكَ؟! وهل تُصَدَّقُ ذاك الذي لقيتَه في السُّوق لو ادَّعى أنَّه يحبُّك أكثرَ ممَّن استقبلك عندَ الطائرة ؟! لا أظنُّك تصدق..
إذن فمن ينامُ ملءَ جَفنيه ثم يَدَّعي أنَّه يحبُّ اللهَ أكثرُ ممَّن يَهْجُرُ فراشَه وراحتَه إلى لقاء ربَّه ومناجاته؛ إنَّ مَنْ يكون هذه حاله لا يمكن أن يكونَ يحبُّ ربَّه أكثر، واللهُ – سبحانَه - أعلمُ بأهل محبته .
محبةُ الرسول - صلى الله عليه وسلم – الصادقةُ، والحرصُ على متابعته والاقتداء به ورجاءُ الله بذلك؛ "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا" [الأحزاب: 21]، وقال تعالى : "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [آل عمران: 31] .
شدَّةُ الخوف من الله - سبحانه وتعالى - واستحضارُ غضبه على مَنْ فَرَّطَ في لقائه ومَنْ تهاونَ في صلاة الفجر؛ وهذا الخوفُ يَتَأتَّى بالعلم بأحاديث الوعيد الذي يُكسبُ القلبَ خشيةَ الله؛ وهذا سببٌ من الأسباب التي كانت تَدْفَعُ السَّلَفَ الصالحَ للقيام لله - سبحانَه وتعالى .
وهذا الخوف إذا قُرِنَ بقصر الأمل كان عونًا للعبد على ذكر القيام ومداومته . استحضارُ العبد شهودَ الله لصلاته وحضورَه إياها، وسماعَه لتلاوته واستجابَته لدعائه وقبولَ توبته واستغفاره؛ فإنَّ اللهَ – سبحانَه - يَنْزلُ ثلثَ اللَّيل الأخير إلى السماء الدُّنيا فيُعطي من سأل ويجيبُ من دعا ويغفرُ لمن استغفر، وقد ثبت ذلك في الحديث الذي رواه أبو هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزلُ اللهُ - تباركَ وتعالى - إلى السَّماء الدُّنيا كلَّ ليلة حين يمضي ثلثُ الليل الأول فيقول : أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يَدْعوني فأستجيبَ له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له»( أخرجه مسلم ) . سلامةُ القلب للمسلمين؛ فلا يحقد على أحد؛ بل ويبيت وهو لا يَحْمل على أحد ضغينةً ولا وزرًا؛ فإذا وجد في نفسه من ذلك شيئًا أحلهم قبل أن ينامَ وجعل ذلك صدقةً عليهم؛ فإذا تصدَّقَ بمظلمته على المسلمين تصدَّقَ اللهُ عليه ورحمه وبعثَه ليحصِّلَ خيرًا مما تصدَّقَ به . الابتعادُ عن المعاصي والذنوب والإقبالُ على الطاعات والحسنات، والإكثارُ منها سائرَ اليوم يُسَهَّلُ قيامَ الليل؛ لأنَّ من حفظ اللهَ في يقظته حفظه اللهُ في منامه، ومَنْ كان على طاعة سائر يومه سَهُلَ عليه القيامُ بالطَّاعات في اللَّيل، وقد قال أحدُهم : اليومُ الذي أصومُ فيه أَيْسَرُ عليَّ في القيام بعدَه في الليل من الأيام التي لا أصومُ فيها؛ لأنَّي أشعرُ أنَّ قلبي أكثرُ رقَّةً. وكما قيل: الحسنةُ تجرُّ أختَها . الإعراضُ عن فضول الدُّنيا؛ فإنَّ التعلُّقَ بالدُّنيا والنومَ معَ التفكير فيها يُبعدُ التفكيرَ في الآخرة؛ فلا يَجْتَمعُ ضدَّان. اجتنابُ كثرة الأكل والشُّرب والخلطة بلا حاجة؛ لأن ذلك يورِّثُ غفلةَ القلب، وامتلاءُ البطن يمنع من القيام؛ فالأكُل الكثيرُ يستوجبُ النومَ الكثيرَ . الابتعادُ عن الأعمال الشَّاقَّة والمرهقة للجسد بلا فائدة، والتي يحتاج الجسدُ بعدها إلى راحة ونوم مستغرق . إلزامُ النفس الهمَّ بالقيام؛ وهذا الهمُّ لا يتأتَّى إلَّا بصدق الطلب والحرص؛ سُئل المحاسبيُّ عن الدَّليل على أنَّ الهمَّ يوقظ صاحبَه فقال : (الدليلُ على ذلك أن العبدَ قد ينام الليالي الكثيرة، فلا يستيقظ إلا بقرب وقت صلاة الفجر أو بعده، حتى إذا عرض له حاجةٌ من حوائج الدُّنيا يهتمُّ بأن ينالها، ويحذر أن تفوتَه إن لم يدلج لها، فإذا نام مهتمًّا بالقيام وقد ألزم قلبَه الحذرَ من أن يذهبَ به النوم فيفوته البكور تيقَّظ في الليل مرارًا لغير الوقت الذي ينتبه له، يحركه الاهتمامُ والحذرُ اللَّذان نام وهما في قلبه، فإذا كان الاهتمامُ والحذر لأمر الدنيا يوقظان عقله وينبِّهانه بعدما نام وذهب عقله، فهما أولى أن يوقظاه لأمر الآخرة وهو يقظان لم ينم .
وشَتَّانَ بين المطلوبَيْن؛ هذا يطلب قليلاً فانيًا مكدَّرًا بالغموم والأمراض والأسقام، ومن بعده يختمُ له بالموت، ومن بعدِ الموت ينظر فيه بعدَما ذهبت لذَّتُه ومنفعته، وبقي السؤالُ بين يدي الله تعالى، حتى يُسألَ عنه : ماذا صنع فيه؟ ثم العفوُ أو العذابُ عليه، ومع هذه الأسباب المكدرة في الدنيا والآخرة لن ينالَ من ذلك إلا ما قُدِّرَ له، وهذا يهتمُّ لطلب باق كثير لا يَفْنَى، مع نعيم مقيم وعيش سليم قد أُزيلت عنه الأمراضُ والأسقامُ ورُفعت عنه الهمومُ والغمومُ والأحزانُ ولا يختم بموت أبدًا، ولا حسابَ ولا تبعةَ فيه عليه، والمولى راض عنه .
هو مسرورٌ بما يتقلَّب فيه من نعيم الآخرة، باق فيه أبدًا، ولا يشاءُ إلا بلغت فيه مشيئته في حياة ليس فيها موتٌ ونعيمٌ؛ لا يُخافُ عليه أبدًا الفوت، مجاورُ القُدُّوس الأعلى في داره، لا يخاف سَخَطَه بعدَ رضاه، ثم ما رَضي له بذلك حتى أكمل ذلك له بغاية الكرامة وقربه إليه في الزيارة، وأنجزَ له ما وَعَدَه من الرُّؤية والنَّظَر إلى وَجْهه الكريم - عَزَّ وجَلَّ؛ إذ يَقُول - جَلَّ من قائل : "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ" [القمر: 54، 55]؛ فأعظم به من مجلس، وأَكْرم به من زائر ومَزور، وناظر ومنظور إليه، ومقبل ومقبل عليه، متردِّدٌ فيما بين نعيمه ولذَّاته، والنَّظر إلى وَجْهه - جَلَّ وعز؛ فشتَّان ما بين الهمتين، وشتان ما بين الغايتين؛ فإذا كان هذا النائمُ يوقظُه اهتمامُه لهذا الفاني المنغص المدكر بعد ذهاب عقله، فالهَمُّ للباقي الهنيء السليم والحذر من فَوْته مع الحلول في العذاب الأليم أولى أن يَتَيَقَّظَ له العقلُ، ولم يذهب بنوم، فإذا اهتمَّ وحذر تيقَّظ ( الرعاية لحقوق الله ) .
التيقُّنُ من القيام والقدرة عليه وعلى الوتر بعدَ النوم؛ وذلك أفضلُ؛ لقوله تعالى : "إِنَّ نَاشِئَةَ الليْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا" [المزمل: 6]؛ قال بعضُ المفسرين : "إِنَّ نَاشِئَةَ الليْلِ ": أي ساعات الليل وأوقاته التي فيها التَّفَرُّغُ والصَّفاءُ وما ينشئُه المرءُ من طاعة وعبادة يقوم لها من مضجعه بعد هدأة من الليل، "هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا"؛ أي هي أَشَدُّ على المصلي وأثقلُ من صلاة النَّهار؛ لأنَّ الليلَ جُعل للنوم والرَّاحةِ؛ فقيامُه على النَّفس أَشَدُّ وأثقلُ، ومن شأن هذه الممارسة الصعبة أن تُقَوِّي النُّفوس وتشدَّ العزائمَ و تصلِّبَ الأبدانَ ( صفوة التفاسير ) .
وصلاةُ الليل مشهودةٌ؛ وذلك أفضلُ؛ فإن لم يتيقن العبدُ من القدرة على القيام فإنَّه يُشْرَعُ له أن يصلي قبلَ أن ينامَ .
عن جابر - رضي الله عنه - قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ خافَ أن لا يقومَ من آخر اللَّيل فليوتر أولَه، ومن طَمع أن يقومَ آخَره فليوتر آخرَ الليل؛ فإنَّ صلاةَ آخر اللَّيل مشهودةٌ، وذلك أفضلُ»( رواه مسلم ) .
وما ذاك إلا لأنَّ من لم يتيقَّن القيامَ وفاتَه الوترُ ليلتَه كلَّها فاته خيرٌ كثيرٌ، ومن ثَمَّ يتكررُ هذا مرات حتى يسهلَ عليه التفويتُ والتضييعُ؛ لأنَّ المرءَ حين يقصر لأول مرة يجد في قلبه غمًّا وهمًّا؛ فإن عاد مرةً أخرى خفَّ هذا الهمُّ والاغتمامُ، فإذا تكرر نقص ونقصَ حتى يذهب، فلا يحزنُ لفوات القيام فيُحرمَ القيام كله . أن يسعى إلى وضع ما ينبِّهُه؛ كتوقيت السَّاعة المنبِّهة أو تكليف أحد أهله أو جيرانه أو أصدقائه بإيقاظه .
فإذا كان ممن لا يشعرُ بتصرفاته وهو نائمٌ فليُبعد منبههُ ويجعل بينه وبينه حائلاً فلا يستطيع إغلاقه إلا ببذل جهد؛ كوضعه على نافذة مرتفعة أو خزينة ملابس عالية؛ فلا يتمكَّن من الوصول إليها إلا بالصُّعود على كرسي ونحوه، فيكون بعد ذلك قد استيقظ تمامًا، وهذا بلا ريب لا يضطرُّ إليه إلا مَنْ تكرَّر منه إغلاقُ المنبِّه والنَّومُ مرة ومرات، أو يستخدمُ التوقيتَ لإطفاء التكييف فيضبطه مثلاً قبلَ وقت قيامه فيضايقه ذلك فيستيقظ . أن يتعاونَ مع أحد أهل بيته على القيام؛ لأنَّ الشَّيطان أغلبُ على الواحد منه على الاثنين، والتعاونُ أدعى للتنافس وأدومُ للعمل؛ لا سيما إذا كان التعاونُ بين الزوج وزوجته؛ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «رحمَ اللهُ رجلاً قامَ من الليل فصلى وأيقظَ امرأته، فإن أبت نضَحَ في وجهها الماءَ، ورحمَ اللهُ امرأة قامت من الليل فصلَّت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء» (رواه أبو داود وقال الألبانيُّ: حسن صحيح ) .
وعن أمِّ سلمة زوج النبيِّ صلى الله عليه وسلم - رضي اللهُ عنها - أنه استيقظ ليلة فزعًا يقول : «سبحانَ الله، ماذا أنزل اللهُ من الخزائن ؟ وماذا أُنزل من الفتن ؟ من يوقظ صواحبَ الحجرات - يريد أزواجه لكي يصلين - رُبَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة» ( رواه البخاري ).
وكان أبو هريرة وامرأته وخادمُه يُقَسَّمون الليلَ ثلاثًا؛ يصلِّي هذا، ثم يوقظُ هذا .
رقية بنت محمد المحارب