تابع معالم في سياق السورة: المعلم السابع: مسألة كتمان آيات الله، والتلاعب بأوامر الله ونواهيه في سبيل حُطام الدنيا: وهي في يومنا هذا على أشُدِّها والعياذ بالله؛ وتطالعنا هذه المسألة
المعلم السابع: مسألة كتمان آيات الله، والتلاعب بأوامر الله ونواهيه في سبيل حُطام الدنيا:
وهي في يومنا هذا على أشُدِّها والعياذ بالله؛ وتطالعنا هذه المسألة في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 159، 160]، وهنا علينا التركيز بأن التوبة وحدها لا تصلح مع هذا الفعل، وإنما يجب البيان معها، بيان ما كانوا يكتمونه، والآية وإن كانت نزلت في طائفة من اليهود، فهي تتضمن توجيهًا مباشرًا للمسلمين.
ومناسبة نزول الآية هي كتمان اليهود صفةَ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم التي جاءت واضحة صريحة في توراتهم؛ يقول ابن كثير في تفسيره: "نزلت في أهل الكتاب، كتموا صفةَ محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أخبر أنهم يلعنهم كل شيء على صنيعهم ذلك، فكما أن العالِمَ يستغفر له كل شيء، حتى الحوت في الماء، والطير في الهواء، فهؤلاء الذين يكتمون بخلاف العلماء، فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، وقد ورد في الحديث المسند من طرق يشد بعضها بعضًا، عن أبي هريرة، وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سُئِلَ عن عِلْمٍ فكتمه، أُلْجِمَ يوم القيامة بلِجامٍ من نار))، والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدًا شيئًا: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ﴾ [البقرة: 159]"؛ [انتهى ابن كثير].
ولِعِظَمِ أمرِ كتمان آيات الله، يعود السياق مرة أخرى في الآيتين 174، 175 ليؤكد على عظم إثمه، ومصير من يلجأ إلى هذا النوع من المتاجرة بالدين في سبيل عَرَضٍ من عروض الدنيا؛ يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 174].
ونقرأ في تفسير ابن كثير لهذه الآية السببَ وراء قيام اليهود بهذا الفعل؛ يقول: "﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ [البقرة: 174]؛ يعني: اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم، مما تشهد له بالرسالة والنبوة، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم، وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتُّحف على تعظيمهم إياهم، فخشوا - لعنهم الله - إن أظهروا ذلك أن يتَّبِعَه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاءً على ما كان يحصل لهم من ذلك، وهو نَزْرٌ يسير، فباعوا أنفسهم بذلك.
﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ [البقرة: 174]؛ وهو عَرَض الحياة الدنيا، ﴿ أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ﴾ [البقرة: 174]؛ أي: إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق نارًا تأجَّج في بطونهم يوم القيامة.
﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 174]؛ وذلك لأنه غضبان عليهم، لأنهم كتموا وقد علِموا، فاستحقوا الغضب، فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم؛ أي: يُثني عليهم ويمدحهم، بل يعذبهم عذابًا أليمًا"؛ [انتهى ابن كثير].
هؤلاء فضَّلوا الفانيَ على الباقي، والضلال على الهدى، فما أصبرهم على النار! ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ [البقرة: 175].
الثامن: دلائل تفرُّد الله في ألوهيته:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 164]، فهل بعد كل هذا الانسجام والدقة والترابط الْمُتْقَن في خلق السماوات والأرض، وتسخير ما يضمن بقاءهما على نظام متناهٍ في الكمال والاتزان - شكٌّ في كمال ووحدانية الخالق؟
سماء ممتدة بلا عمد، أرض بجبال راسيات لا تميد ولا تنهار، ولا يختلط بحرها ببرها، ليل ونهار يحتكمان إلى شمس وقمر، يُسيِّرهما خالق واحد بحساب لا يُحيط مخلوق بعلمه، ماء من السماء وضع فيه الخالق سرَّ الحياة على هذه الأرض، فجعل منه كل شيء حيٍّ، فكيف وضع الخالق سر الحياة في قطرة الماء هذه؟ تصريف الرياح، السحاب المسخَّر بين السماء والأرض، فلا هو في السماء ولا هو على الأرض، من يُمسك هذا السحاب؟ من يوجِّه الريح التي تُسَيِّره؟ من يأمرها أنِ اشْتَدِّي فكوِّني إعصارًا مدمِّرًا يُدمر ديار الظالمين؟ ومن يأمرها أن كوني رحمة وسلامًا على قوم صالحين؟ هو الله الواحد الأحد، جل في علاه.
التاسع: اتخاذ الناس أندادًا لله، ومشهد التبرؤ بين التابع والمتبوع يوم القيامة:
هؤلاء المذكورون في الآية لم يكفروا بالله، هم مؤمنون به، لكنهم اتخذوا معه أندادًا - والند هو النظير والمثيل - يحبونهم كما يحبون الله، إذًا هم قوم يؤمنون بالله، ويعبدونه بل ويحبونه، لكنهم يؤمنون ويعبدون ويحبون إلى جانبه من يعتقدون فيه الندية لله، من حيث القدرة والقوة، والتشريع والحكم، والرزق والغوث، بل والقدرة على الخلق كخلق الله، والعياذ بالله.
لكن كيف يكون حال هؤلاء الأنداد يوم القيامة، والمقدِّسين لهم المتَّبِعين لمنهجهم؟ وما هو مصيرهم؟
ويا له من مشهد مرعب، شديد الوقع، عندما يتبرأ السادة والمفكرون، والعلماء والعظماء، الضالون الْمُضِلُّون، ممن اتبعهم على كفرهم وضلالهم، وسار على نهجهم وناصَرَهم في الحياة الدنيا، بعد أن رأوا العذاب وعاينوه، فعلِموا وأقرُّوا بأن القوة لله جميعًا! كيف لا، وقد وجدوا أن كل ما كانوا يتباهَون به من قوة وسلطة وسمعة في الدنيا أصبح حطامًا؟ ﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ [البقرة: 165]، ثم يبدأ مشهد التبرؤ المخيف: ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 166، 167].
اللهم إنا نعوذ بك من النار، وما قرب إليها من قول أو عمل.
والحديث عن وحدة الألوهية، الذي سبق في مشهد آيات الله في الكون، يستتبعه وحدة الربوبية، فالله هو الرزَّاق، وهو الذي هيَّأ الرزق للعباد في الأرض، وأمرهم أن يأكلوا مما أحله لهم، والله الخالق الرازق هو الذي يحلِّل ويحرِّم، ويبين ذلك في شرعه، وكل ما وراء حلال الله وحرامه من شرع الشيطان.
والذين يتبعون خطوات الشيطان يُصِرُّون عليها استكبارًا، وعصبية وقومية؛ لأن آباءهم كانوا يتبعونها حتى ولو كانوا على ضلال في العقيدة والفكر والعقل.
هؤلاء صفتهم الذين كفروا وتشبيههم: ﴿ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ ﴾ [البقرة: 171]؛ أي: كمثل الراعي الذي ينعق بغنمه الذي لا يسمع ﴿ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ﴾ [البقرة: 171]، دون فهم أو إدراك أو تمييز، وكأنهم بلا عقول تمامًا كهؤلاء الأنعام.
ثم يأتي تخصيص المؤمنين بالنداء في الإشارة إلى ما حرَّم عليهم من مطاعم، وتفصيل ذلك في سورة المائدة.
• آية البِرِّ: ويتخلل التشريعات والفرائض تعريفُ البر، في آية تلخِّص حقيقة الإيمان وماهيته، فالإيمان عمل، وامتثال لأوامر الله وقوانينه وفرائضه، والوقوف عند حلاله وحرامه، وليس شعائرَ فحسب؛ عن مجاهد قال: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله، وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: ليس البر أن تُصَلُّوا ولا تعملوا، وبهذا تكون هذه الآية مقدمة لِما سيأتي بعدها من تشريعات إلهية.
ومن كانت هذه صفاته وسلوكياته الإيمانية، فهذا هو الصادق المتقي: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
جاء في تفسير ابن كثير لهذه الآية: "قال الثوري: ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾ [البقرة: 177] الآية، قال: هذه أنواع البر كلها، وصدق رحمه الله؛ فإن من اتصف بهذه الآية، فقد دخل في عُرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله، وهو الإيمان بالله، وهو أنه لا إله إلا هو، وصدَّق بوجود الملائكة الذين هم سَفَرة بين الله ورسله، والكتاب، وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء، حتى خُتِمت بأشرفها، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب، الذي انتهى إليه كل خير، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة، ونسخ الله به كل ما سواه من الكتب قبله، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وقوله: ﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ [البقرة: 177]؛ أي: أخرجه وهو مُحِبٌّ له، راغب فيه، نصَّ على ذلك ابن مسعود، وسعيد بن جبير، وغيرهما من السلف والخلف؛ كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((أفضل الصدقة أن تَصَدَّقَ وأنت صحيح شحيح، تأمُل الغِنى، وتخشى الفقر)).
﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ﴾ [البقرة: 177]؛ كقوله: ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾ [الرعد: 20]، وعكس هذه الصفة النفاق؛ كما صحَّ في الحديث: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان))، وفي الحديث الآخر: ((إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فَجَرَ))، وقوله: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾ [البقرة: 177]؛ أي: في حال الفقر، وهو البأساء، وفي حال المرض والأسقام، وهو الضراء، وحين البأس أي: في حال القتال والْتِقَاء الأعداء؛ قاله ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومرة الهمداني، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك، والضحاك، وغيرهم، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ﴾ [البقرة: 177]؛ أي: هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا، ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177]؛ لأنهم اتَّقَوا المحارم، وفعلوا الطاعات.
وتتوالى التشريعات والفرائض بعد آية البر: القِصاص، والوصية، والصيام، والقتال، والإنفاق، في الجهاد - وسيطالعنا في أواخر السورة الإنفاق مفصلًا بمفهومه العام – ومن ثَمَّ الحج.
القصاص في القتلى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 178، 179]؛ قال ابن كثير: "يقول تعالى: وفي شرع القصاص لكم - وهو قتل القاتل - حكمة عظيمة لكم؛ وهي بقاء الْمُهَجِ وصونها؛ لأنه إذا علِمَ القاتل أنه يُقتل، انكفَّ عن صنيعه، فكان في ذلك حياة النفوس، وفي الكتب المتقدمة: القتل أنفى للقتل، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح، وأبلغ، وأوجز، وقال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل، فتمنعه مخافة أن يُقتَلَ"؛ [تفسير ابن كثير].
الوصية: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 180]، ثم إن الوصية تأتي في سياق الآيات بعد القصاص، اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين، وقد كان ذلك واجبًا على أصحِّ القولين قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه، وصارت المواريث المقدَّرة فريضة من الله، يأخذها أهلوها حتمًا من غير وصية، ولا تحمل مِنَّةَ الْمُوصي؛ ولهذا جاء الحديث في السنن وغيرها عن عمرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول: ((إن الله قد أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية لوارث))؛ [ابن كثير].
الصيام: وتبدأ آيات الصيام بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، والصيام كما جاء في الآية الكريمة كان مفروضًا على أهل الكتاب، على قول بعض المفسرين، وقال آخرون: إن قوله تعالى: ﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [البقرة: 183] تشمل كل الناس ممن كانوا من قبلنا في جميع الشرائع.
فائدة: يلفتنا في آيات الصيام أمران:
الأمر الأول: هو أنها يتخللها آية الدعاء: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، فالله معنا أينما كنا، وكيفما دعونا، قريب جل في علاه، فوري الاستجابة: إذا سألك عبادي عني - مباشرة تأتي بعدها - فإني قريب، لم يقل له: فقل لهم، بل تولَّى جل وعلا الإجابة بنفسه، رحمة تقشعر لها الأبدان، سبحانك يا ألله! ما أكرمك! وما أرحمك بعبادك! فإن كان هذا حال الله معنا في جميع أحوالنا، فكيف بنا ونحن صائمون؟
الأمر الثاني هو: أنها تُختَم بآية أكل الأموال بالباطل: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188]، وكأنه يقول لنا: إن الصيام يكون صيامًا عن كل المعاصي، ورأسها أكل أموال الناس بالباطل، ويذكرنا ربط الآيتين بقوله صلى الله عليه وسلم كما ورد في صحيح ابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر))، وجاء في تفسير هذا الحديث على أنه محمول على من صام ولم يُخلِص النية، أو لم يتجنب قول الزور والكذب، والبهتان والغِيبة، ونحوها من المناهي؛ فيحصل له الجوع والعطش، ولا يحصل له الثواب، أو هو الذي يُفطِر على الحرام، ولا يحفظ جوارحه عن الآثام، (ورُبَّ قائم)، أي: متهجِّد بالصلاة في الليل، ليس له من قيامه إلا السهر؛ وذلك لسوء نيته، أو غصب منزل صلاته، وأكل أموال الناس بالباطل.
الأهِلَّة: ثم تأتي آية الأهلة؛ لتربط سياق آيات الصيام، المرتبط برؤية الهلال، بآيات القتال في الأشهر الحرم - التي ستأتي لاحقًا – ومن ثَمَّ فريضة الحج، وعِدَّة الطلاق والوفاة في كثير من شؤون الحياة الاجتماعية تنظمها الأهلة، هذا التنظيم لا يمكن أن يحل محله لا تأريخ ميلادي ولا صيني، ولا رومي ولا لاتيني.
قال العوفي عن ابن عباس: "سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة، فنزلت هذه الآية: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ [البقرة: 189]، يعلمون بها حِلَّ دينهم، وعدة نسائهم، ووقت حَجِّهم، وقال أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله، لِمَ خُلِقت الأهلة؟ فأنزل الله: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: 189] يقول: جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم، وعدة نسائهم، ومحل دينهم، وكذا رُوِيَ عن عطاء، والضحاك، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس، نحو ذلك، وقال عبدالرزاق، عن عبدالعزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جعل الله الأهلة مواقيت للناس، فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فعدوا ثلاثين يومًا)).
وقوله: ﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾ [البقرة: 189]، قال البخاري: حدثنا عبيدالله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: "كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتَوا البيت من ظهره، فأنزل الله: ﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾ [البقرة: 189]".
فائدة:
أسلوب السؤال في القرآن الكريم:
أول سؤال في سورة البقرة كان: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ﴾ [البقرة: 189]؛ ليتبعه التساؤل عن أمور متعددة، يطرحها المؤمنون على الرسول الكريم، ويجيب عليها المشرع جل في علاه بآيات الأحكام: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 215]، ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ﴾ [البقرة: 219]، ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ﴾ [البقرة: 217]، ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ﴾ [البقرة: 222]، وهذا إنما يدل على حِرْصِ المؤمنين على تعلُّم أساسيات دينهم الذي آمنوا به إيمانًا صادقًا، فأرادوا أن تكون حياتهم بتفاصيلها ضمن إطاره.