إن من ثمار الإيمان في النفس أنه يفجر في النفس الإنسانية ينابيع الحب،
يقول عليه الصلاة والسلام:
والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا
النبي عليه الصلاة والسلام علَّق دخول الجنة على الإيمان، وعلَّق الإيمان على المحبَّة.
الحب هو:
الحب ـ أيها الإخوة ـ روح الوجود، وقوت القلوب، وصمام الأمان لبني الإنسان، لو ساد الحب ما احتاج الناس إلى العدل..
الحب يحول المرَّ حلواً، والتراب تبراً، والكدر صفاءً، والألم شفاءً، والسجن روضة، والسقم نعمة، والقهر رحمة، هو الذي يلين الحديد، ويذيب الجليد، ويبعث الميت، وينفخ فيه الحياة.
الحب هو الجناح الذي يطير به الإنسان في الأجواء ويصل به إلى السماء.
الحب هو الذي ينقل الإنسان من الثرى إلى الثريا..
يا رب إذا أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك.
وازن أحد العلماء بين جوانب النشاط البشري فقال: ماذا تعطينا الحكمة غير المنطق الجاف، وماذا يعطينا الحذر غير الخوف الدائم وماذا يعطينا العمل غير العرق المتصبب، والحقد المتأجج..
والمال ماذا يعطينا غير الخوف والحذر، والعرق والعقد، لكن الحب هو جوهر الحياة الذي يعطينا الأمن والأمان والاستقرار والسلام.
المؤمن هو الذي يحب كل شيء:
نحب كل شيء، نحب كل إنسان، نحب المنع كما نحب العطاء المنع يوقظ فينا القوة على المقاومة، فتتوهج النفس وتتحفز والعطاء نسيم يلطف حرَّ المعركة، نحب الوجود كله بدايته ونهايته، لكن الذي يستطيع أن يحب هذا الحب الكبير صنف واحد من بني البشر، إنه الصنف الذي خالطت قلبه بشاشة الإيمان، الإيمان وحده ينبوع الحب المصفى الخالد، المؤمن وحده يحب كل شيء، يحب حتى مكروه القضاء، يحب الوجود كله بدايته ونهايته، يحب الموت كما يحب الحياة.
أصل كل هذا الحب محبة الله عز وجل.
المؤمن نفذ إلى سرَّ الوجود، الكافر بقي في النعمة، لكن المؤمن وصل إلى المنعم، الكافر بقي في الحكمة، لكن المؤمن وصل إلى الحكيم، الكافر بقي في العطاء، لكن المؤمن وصل إلى المعطي المؤمن نفذ إلى سر الوجود، فأحب الله واهب الوجود، وواهب الحياة ومصدر الإمداد والإنعام.
نعم ثلاث نتقلب بها، نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد.
الإنسان مجبول على حب الجمال، وحب الكمال، وحب النوال، لأن الله جل جلاله مصدر كل جمال، كل ما في الكون من جمال مسحة من جمال الله عز وجل، فهؤلاء الذين عرفوا الله وأقبلوا عليه ذابت نفوسهم من محبته.
لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف
فلو شاهدت عيناك من حسننا***الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنــــا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنــا***خلعت عنك ثياب العجب و جئتنا
ولو ذقت من طعم المحبــــة***عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنـا
ولو نسمت من قربنا لك نـسمـة***تركت جميع الكائنات لأجلنـــا
الله هو مصدر الجمال:
يحب الإنسان ربه، لأنه مصدر الجمال، فكل ما في الكون يشهد بجمال الله، وإبداعه وإتقان صنعته، قال تعالى:
(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3))
[سورة الملك]
(وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88))
[سورة النمل]
(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7))
[سورة السجدة]
ألا ترى إلى الورود ؟.. ألا ترى إلى البساتين ؟.. ألا ترى إلى الغابات ؟..
هذا كله من جمال الله عز وجل، والإنسان أحب الله، لأنه مصدر الكمال، إن مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحب الله عبداً منحه خلقاً حسناً..
لا كمال إلا كمال الله، ما نرى من الكمال البشري النسبي ما هو إلا ذرة مستمدة ومفتقرة إلى كمال الله عز وجل، وأحب الإنسان الإحسان وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان..
يا داود ذكر عبادي بإحساني إليهم فإن النفوس جُبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها
وأي إحسان كإحسان الله لنا منحنا نعمة الوجود، منحنا نعمة الجوارح والأعضاء، منحنا أهلاً وأولاداً وزوجة، منحنا كوناً فسيحاً وجمالاً رائعاً.
ما من إحسان إلا منسوب إلى الله عز وجل.
أيها الإخوة الكرام:
شيء آخر في الموضوع: الله عز وجل سخّر لنا الكون كله قال تعالى:
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29))
[سورة البقرة]
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20))
[سورة لقمان]
المؤمن أحب الله لكل هذا أحبه، لأنه مصدر الجمال، وأحبه لأنه منبع الكمال، وأحبه، لأنه أصل كل إحسان..
حقيقة المؤمن يحب الله عز وجل حباً يفوق حبه لأبويه، يفوق حبه لأولاده، يفوق حبه لنفسه..
قال والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من أهلي وولدي ومالي والناس أجمعين، إلا نفسي التي بين جنبي، قال كلا يا عمر لما يكمل إيمانك، إلى أن قال والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من نفسي ومالي وأهلي وولدي والناس أجمعين، فقال عليه الصلاة والسلام الآن يا عمر.