وصَف القرآنُ مكانةَ نبي الله موسى -عليه السلام- وصفًا بليغًا فقال تعالى: (وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا)، أي: له وجاهة وجاه عند ربه -عز وجل-، ومن وجاهته العظيمة عند الله أنه
وصَف القرآنُ مكانةَ نبي الله موسى -عليه السلام- وصفًا بليغًا فقال تعالى: (وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا)[الْأَحْزَابِ: 69]، أي: له وجاهة وجاه عند ربه -عز وجل-، ومن وجاهته العظيمة عند الله أنه شفع في أخيه هارون أن يرسله الله معه، فأجاب الله سؤاله وقال: (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا)[مَرْيَمَ: 53]، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إن موسى كان رجلا حَيِيًّا، وذلك قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا)[الْأَحْزَابِ: 69]. ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ بلوغ الوجاهة عند الله مرتبة سَنِيَّة، ورفعة الدرجات مقام عَلِيٌّ، وكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القدوة في السمو بهمتهم إلى أعلى الدرجات، حين يدعو أحدُهم بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: “اللهم إني أسألُكَ إيمانًا لا يَرْتَدُّ، ونعيمًا لا يَنْفَدُ، ومرافقة نبيكَ محمد -صلى الله عليه وسلم- في أعلى درج الجنة؛ جنة الخلد“. ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ ومَنْ رُزِقَ الوجاهة عند الله فهنيئا له، فيضًا من الخيرات لا ينضب، وأُنْسًا من السكينة والطمأنينة لا يُدانى، وسعادة تَغمُر حياتَه لا تُجارى، ومن كان وجيها عند الله فاز بالقرب منه -سبحانه-، ومن كان قريبا من مولاه، فإنه إن سأل ربَّه أعطاه، وإن استعاذ كفاه ووقاه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله -تعالى- يقول: وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ” وما ظنك بمالك الملك إذا أعطى؟ ماذا يعطي؟ وإن رضي عنك، ماذا يكون حالك؟ وإذا كفاك ووقاك ما مصيرك ومآلك؟ ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ الوجاهة عند الله نقاء وارتقاء في سبيلها يتنافس المتنافسون، ومن أجلها يشمر المشمرون، وأشرف مقامات الوجاهة أن يذكرك ربك، قال الله -تعالى-: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)[الْبَقَرَةِ: 152]. ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ أما الوجاهة للدنيا وفي الدنيا التي يتصارع في سبيلها الخلق ويتهاوشون فإنها تُضَيِّع العمرَ، وتصدع الخُلُق وتلوِّث النَّفْسَ، وتُفسد النيةَ ، خاصةً أولئك الذين يشترون وجاهة الدنيا بالدين، فتحبط أعمالهم، كما ورد في الحديث العظيم، الذي سنورده في الخطبة الثانية إن شاء الله. ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ الوجاهة عند الله وجاهة يمتد شعاعها لتعم أهل الإيمان من ذرياتهم، كرما من الله وفضلا، فيرفع الله ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل، قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)[الطُّورِ: 21]. ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ ينال الوجهاء عند الله مكانة رفيعة تتجلى في الذِّكْر الحَسَن، وبَسْط المحبة، ونثر المودة في أهل السماء والأرض، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ” وقد تبلغ الوجاهة بالعبد أنه لو أقسم على وقوع شيء أوقَعَه اللهُ إكرامًا له ولِعِظَم منزلتِه قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ” وقال: “رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ“. ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ تظهر في الدنيا صور من الوجاهة، لكن الوجاهة التي يدوم أثرها ويذكو فضلها لا تظهر إلا في الآخرة، قال الله -تعالى-: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا)[الْإِسْرَاءِ: 21]، الوجاهة عند الله ليست للأغنياء دون الفقراء، ولا للفقراء دون الأغنياء، ومَنْ رام بلوغَها فسبيلها صراط مستقيم، واضح المعالم، بيِّن المسالك، ميزانه العمل والتفاضل فيه بصدق المقصد والجد في الطاعة، وأجلها تعلُّق القلب بالصلاة والحرص على إدراك جماعتها، قال صلى الله عليه وسلم: “عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ بِهَا عَنْكَ خَطِيئَةً“، والقرآن العظيم قراءة وعملا وحفظا، يقود صاحبَه إلى الدرجات العلا ووجاهة لا حد لمنتهاها، قال صلى الله عليه وسلم: “يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا“، وقال: “مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ، وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ الْبَرَرَةِ“ ، وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته. ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ وتبلغ الوجاهة أوجَها عند المولى بالجمع بين العلم والإيمان والاشتغال بذكر الرحمن قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[الْمُجَادَلَةِ: 11]، وقال صلى الله عليه وسلم: أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَأَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟” قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: “ذِكْرُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-“، ومن سمات الوجهاء التي لا تنفك عنهم، ولها ثقل في الميزان، وبها يرتقون في سلم المجد والفضل السلوك الحسن، والخُلُق الرفيع، وسماحة النفس، والإحسان إلى الخلق، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ قَائِمِ اللَّيْلِ وَصَائِمِ النَّهَارِ“، وقال صلى الله عليه وسلم: “مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُشْرِفَ لَهُ الْبُنْيَانُ، وَتُرْفَعَ لَهُ الدَّرَجَاتُ، فَلْيَعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَلْيُعْطِ مَنْ حَرَّمَهُ وَيَصِلْ مَنْ قَطَعَهُ“.